لآفاق حرة
إشكالية العلاقة بين العلم و الفلسفة
بقلم. أسمى الزهار
“لا نستطيع أن نفعل أي شيء بلا فلسفة..لأن كل شيء له معنى خفيّ علينا إدراكه”….هذا ما قاله الكاتب الروسيّ مكسيم كورغي في تعريفه للفلسفة، فهل خدمت الفلسفة العلوم و طوّرت فيها محدثة بذلك نقلة نوعيّة في تاريخها أم أنها بقيت “حبّ الحكمة “كما عرّفها الإغريقيون قديماً و توقفت عند الإستفسارات حول الوجود و ما وراء الطبيعة…؟
لعلّه الهدف سيكون مشتركاً بين الفلسفة و العلم حيث أن كلاهما ينطلق بطرح أسئلة محاولاً الوصول إلى الحقيقة المطلقة و الإلمام بكامل أجزاء المعرفة بدافع الفضول الغريزي للإنسان، لكن الفارق بينهما واضح حيث أن الفلسفة تطرح أسئلة عن الملموس و غير الملموس و تتوسع في وضع احتمالات و تخيلات و تحليلات تميل إلى الشك أكثر منها إلى اليقين ، في حين أنّ العلم يقوم على المادي و الملموس فقط و يعتمد على التجربة و المعطيات و النتائج التي تؤدي بدورها إلى وضع قواعد صحيحة و يقينية تخدم البشرية بصفة أشمل و أكثر قرباً من المنطق الإنساني…
لكن السؤال هنا … مالذي يجعل البعض يعتقد أن الفلسفة تتراجع في ظل تطوّر العلوم … و هل هذا فعلا إحتمال وارد لما يسود بينهما من علاقة يطغى عليها عنصر التوجس و الشكوك …!!
لربما هو الإحتياج الفكري الذي يتربع على عرش الفضول المعرفي ما يجعلنا نخوض معاركاً لا تنتهي مع واقعنا بغية اكتشاف ماهيته و طبيعته و أسباب ظهوره و ما يجب علينا فعله من أجل تحسينه لمواكبة التطور الحضاري الحاصل..
و لهذا فنحن نواصل البحث في كل الأشياء التي بداخلنا و التي حولنا تحت مسمّى الفلسفة لنجد بيت الحكمة فعلا بين طيّات العلوم، فكل ما أتت به من ثقافة مجرّدة من الأوهام و المعتقدات البالية ساهم في النهضة بالبشرية و زادتها قيمة و منحها المعنى الذي أعطى الحياة شكلها الحقيقي..
يقول ابن خلدون: “إن العقل هو ميزان صحيح و أحكامه يقينية فإعمال العقل يصل بالإنسان إلى غايته و هي الوصول إلى الحقيقة”…فإذا كان كذلك لماذا يخطيء العقل أحياناً في تقديره للأشياء فيضطر البعض إلى إعادة نظريّاتهم و بحوثهم و معلوماتهم عائدين بذلك إلى النقطة الصفر .. ألأنّ الفلسفة عادت إليهم صدفةً كي تعرّي نقص الحقيقة المطلقة للعلوم أم لأن كلاهما ناقص يحتاج إلى المزيد من التعمّق الفكري كي يصل إلى درجةٍ أعلى من الكمال…؟
مرّت الفلسفة عبر التاريخ بمراحل و كان لها تأثير كبير على مسرى الأحداث في العصر القديم حيث نرى أن كتاب ” الجمهورية ” للفيلسوف اليوناني أفلاطون يعتبر إنجازاً لا يمكن الإستغناء عنه خاصة و أنه ناقش قضايا تخص الدول و المجتمعات بكل مذاهبها و دياناتها و تناول فكرة العدالة و الدولة المثالية المكونة من ثلاث طبقات.. دون أن ننسى أرسطو الذي تبنى أنذاك أفكاراً جديدة أنكرها بعض الجهلة لقلّة معرفتهم بضرورة السير على منهاجها خدمةً لمصالح المجتمع، و من أهم أقواله :”من يهزم رغباته أشجع من الذي يهزم أعدائه لأن أصعب انتصار هو الإنتصار على الملذات …”
مع مرور الزمن تغيرت الأفكار و صارت الفلسفة تبحث عن إجابات لأسئلة أكثر عمقاً و بُعداً و خدمةً للبشريّة… فبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس تشكّل ما يسمّى بفلسفة القرون الوسطى حيث كان أغلب روّادها من رجال الدين و الكنيسة، ما ساعد الأشخاص أنذاك إلى فهم الدين بوضوح أكثرو يعتبر أوغستين من أهم فلاسفة العالم الغربي أنذاك و ابن رشد في العالم الإسلامي..
بعد ذلك ظهرت فلسفة جديدة في القرن الرابع عشر سمّيت بفلسفة عصر النهضة حيث تميزت بالإنفتاح الثقافي على العالم واستخدام آلية التفكير لخدمة التطور العلمي بكافة أنواعه ، و مجالاته ، فبدأ أنذاك الباحثون بإعادة دراسة أشمل لأعمال فيثاغورس و أرخميدس و إقليدس فبرزت خلالها نظريات علميّة جديدة و مفكّرين كبار كغاليليو جاليلي الذي كان يؤمن بأن العلم و الفلسفة مرتبطان و لا يمكن تفريقهما عن بعضهما ..
ببزوغ شمس إسحاق نيوتن و نظرياته المثيرة للجدل خاصة نظرية الجاذبية تجاوزت الفلسفة مجرد التفكير بالميتافيزيقيا، و الغيب، و اللامحدود.. فبدأ عصر تحفيز العقل على التطور الفكري بدل التصور الذهني و التمسك بالمعتقدات التي لاتمت للواقع بصلة…هذا الذي دفع بمكانة الإنسان إلى وضع مرموق أكثر و حدّد علاقته بالكون بصفته كائناً قويا لا يعتمد على الفرضيات فقط ، بل يمارس إنتاجه الفكري و يتعامل معه ليشكل حضارةً متينة…
مع صدور كتاب ” التأملات” للفيلسوف ديكارت إتّخذ العلم طريقاً صحيحاً مستنداً على فلسفةٍ نقديّة في وضع قوانين و قواعد لعدّة مجالات كالسياسة و الدين و التاريخ مُحدثاً بذلك ثورةً في عالم المعرفة و السلوك خاصة و أن إيمانويل كانت كان من مؤيّدي كلّ ما يولي العقل الأولوية و الاهتمام كونه العامل الأهم في تشخيص إشكاليات العصر الراهن…
هكذا صار من الواضح جدّا معرفة كيف تطوّرت الفلسفة من مجرّد البحث في الوجود و تعريف ماهية الأشياء و المشاعر في الكون إلى مدخل حقيقي لأبرز الأفكار العلمية مُحدثة بذلك نقلة نوعية في اكتشاف العالم الجديد … حيث لا يتم فيه البحث في الروح بقدر البحث على رقيّ المجتمعات و دفع عجلة التطور نحو الحداثة و الصلاح و الوعي الثقافي العظيم…
…