لآفاق حرة
علي الجندي.. رهينُ مَحبَسِ الشعر.
بقلم. نجم الدين سمان. سوريا
التقيتُهُ أكثر من مرَّة.. أطولها في دمشق وحلب؛ وآخرها.. في اللاذقية.
وفي حلب.. أحطنا به؛ نحن أبناء الملتقى الأدبي في جامعة حلب؛ وبيننا شعراء أغدق عليهم الناقد محمد جمال باروت هذه الصِفَةَ الربانيّة: “الأنبياء الصغار” وقد أرادها مُصطلحاً جديداً في معجم النقد الشعري المعاصر؛ وتمسّك بها أصدقائي الشعراء يتوخون بها خلوداً.. كخلود جلجاميش؛ وكان أصغرُهُم: لقمان ديركي غضاً في الثامنة عشر من عمره؛ ولم يتجاوز أكبرُهم.. الرابعة والعشرين؛ فعلّقتُ مُمازحاً في حضرة علي الجندي:
– أوهمهم الباروت بأنهم أنبياء الشعر الحديث جداً في سوريا.
وبعد يومين رأيته في كافتريا مطعم وانيس.. فدخلتُ؛ سألني علي الجندي:
– هل قال الباروت هذا.. أم انك تمزح كعادتك؟.
– بل كتَب ونشر المُصطلح إيّاه.. وقد صدّقوه؛ وسينتظرون حتى الأربعين من عمرهم لينزل عليهم الوحي قائلاً بلسان جبريل: – أشعِر.. “اكتب شعراً وانشره بين الناس”؛ فيُجِيبُه كلّ فتى منهم: – ما أنا بشاعر.
ضحكنا.. وعلّق علي الجندي:
– الملائكة لا تنزل بالوحي الشعري على الشعراء.. بل الأبالسة.
ثمّ أردفَ بعد أن غَبَّ من كأس “بيرة الشرق” أمامه: – الشعر.. شيطان جميل؛ مُشاكِس؛ مُشاغِب؛ ضدّ كلّ الآلهة والحُكّام والسلاطين والنصّابين.
أذكر أيضاً.. اللقاء به في مطعم اللاتيرنا بدمشق.. بحضور ممدوح عدوان؛ ولم يكن لي دورٌ يُذكر في ذاك الحوار الثنائيّ المَاتِع الساخر بين شاعرين.. سوى حين تذكرا سُخريات حسيب كيالي؛ فنظر علي الجندي إليّ: – أنت ابنُ مدينته؟.
فأجبتُه مُمَازحاً: – لو أنّ والدي كان شرطياً ويتنقل بين المدن.. فريما كنتُ قد وُلدت في “دير ماما” -مسقط رأس ممدوح عدوان- أو في السلميّة -مسقط رأس علي الجندي-.
قال ممدوح عدوان: – افتقدنا سخريته.
يقصد حسيباً.. فعلّقت: – حتى لو أنه كتب عنك تلك الجملة الشهيرة؟.
سألني علي الجندي: – ماذا كتب عن هذا الأزعر؟.
يقصد ممدوحاً؛ قلت: – ما أزال أتذكر الجملة حرفياً: “أعجَبُ من نقاد الشعر ومن الصحفيين كيف يجعلون من العداون الامبريالي على أمتنا ممدوحاً.
فضحك علي الجندي.. حتى تشردَق.
قال ممدوح: – اضحك يا أبو لهَب.. اضحك.
علّق علي: – أضحك.. لأنك لن تستطيع رَفعَ دعوى ضِدَّه بتُهمة التشهير؛ لم يذكر اسمَكَ الصريح؛ وتلك طريقته اللذيذة.
قال ممدوح: – هل تعرف بأنّي مَدِينٌ له.. فقد زادني شهرةً آنذاك.
هكذا.. كانت ردودُ أفعالِ المبدعين الكِبَار حين ينتقدهم حلمنتشياً مُبدعون كِبَار؛ بل إنهم كانوا يتبادلون المُزَاح فيما بينهم.. شعراً حلمنتشياً لاذعاً “كما في عُصبة الساخرين” في دمشق خمسينيات قرنٍ مضى واستمَرَّ نهجها مع “جريدة الكلب” الساخرة لصدقي اسماعيل. كانوا يجلسون على طاولة واحدة في المقهى الذي يرتادون.. ويتبادلون المُزَاحَ نثراً وشعراً وبكلّ اللهجات السورية ؛ وكان حسيب كيالي يبدأ بالسخرية من نفسه ومن بعضِ عائلته وبخاصةٍ من ابن عمّه الذي يعتبره شُويعراً مثل صابر فلحوط؛ وشِعرِيراً نِحرِيراً مثل علي عقلة عرسان.
لم أعد ألتقي بجُنديّ الشِعرِ.. إلا نادراً بعد انتقاله للسكن في مدينة اللاذقية؛ حتى اتصل بي الصديق غازي أبو عقل وريثُ صدقي إسماعيل في “جريدة الكلب” مُحافظاً على صدورها بخطّ يده.. بعد وفاة مؤسسها؛ شرح لي وضع علي الجندي الصحيّ في عُزلته؛ وكنت وقتها رئيسَ تحريرٍ لجريدة “شرفات الشام” الصادرة عن وزارة الثقافة؛ وأردف الصديق: – هل يمكن للدكتور رياض نعسان آغا أن يتوسط لدى وزير التربية لتنتقل السيدة زوجة الجندي من مدرسة في الريف الجبلي البعيد إلى مدرسة في اللاذقية.. لتستطيع التفرُّغ لرعاية صديقنا علي؟.
فأجبته: – بل سنرفع سقفَ الطلبات.. دعني أتصرّف.
قال غازي: – سأرسل لك العدد الجديد من الكلب.. بمثابة تفويض.
في اليوم التالي.. اتصلت به: – مشي الحال.. انتقلت زوجة علي إلى مدرسةٍ قرب منزلهما؛ وجهِّز نفسك يا جنرال؛ سيزور الدكتور رياض شاعرنا في بيته.. خلال زيارته للمدينة الأسبوع القادم.
ردّ غازي أبو عقل ضاحكاً: – زيارة سريّة أم علنيّة.
– بل علنيّة.. ومع الصحافة تكريماً للشاعر؛ قُل له أن أعماله الشعرية الكاملة ستُطبع في الوزارة حالَ تجهيزها؛ وهناك مفاجأة ثانية.. خلال اللقاء ذاته.
قال غازي: – لديّ مهمةٌ قتاليّة لإخراج عليٍّ من عُزلته؛ جدران بيته تنزّ رطوبةً وتقشَّرَ دهانها؛ سأعمل جاهداً.. ليبدو لائقاً.
وقتها.. أحسستُ بغُصّةٍ في الحلق: كيف نترك شاعراً متل علي الجندي في هذا الوضع؛ بينما يزداد النصابون ثروةً واستبداداَ.
فقلت: – والمفاجأة الثانية لا تقُلهَا له؛ لأنها مكافأة مالية بمائة ألف ليرة سورية من وزير الثقافة؛ وستستلمها أنت بالنيابةِ عنه في ظرفٍ مُغلَقٍ عند وصولنا؛ حتى لا يبدو في الإعلام أن الوزير يتكرّم على الشاعر؛ وفيما بعد سيحصل على مبلغٍ ثانٍ بعد طباعة أعماله الكاملة.
لن أنسى دور غازي أبو عقل في تكريم الشاعر علي الجندي عام 2007؛ فقد جَلَبَ الحلّاق إلى بيته.. ليُشذب له شعرَه ولحيته المتروكة للنسيان؛ وأرسل بذلته الوحيدة الباقية لديه للتنظيف والكَوِي؛ كما جَلَبَ دَهَّاناً لطِلاءِ الجُدران المُتقشِرَة.
بعد اللقاء.. نشر الصديق “الجنرال سابقاً” غازي أبو عقل بيتين من الشعر الحلمنتشيّ في جريدة الكلب بخطّ يده:
” دارَ الزمانُ بنا وقوفاً.. حتى رأينا جنرالاً يحلِقُ لجُندِيِّهِ
مُشَذِباً ذقنَهُ علي بحر الرَجَز.. وغُرَّةَ هامَتِهِ وما تحتَ إبطَيهِ”.
سلاماً لروح علي الجندي الساخرة؛ ولضحكاته الهادرة؛ ولشعره الذي لا يُغَادِرنا.
*- شهادتي عنه.. ضمن كتابٍ جماعيّ عن الشاعر يصدر لاحقاً.