الزجل و المتاهة محورعناوين كبيرة ، تخرج الوجود بالصورة التي تجعل الشاعر منسجما مع أفكاره . موضوع نبحث فيه مع شاعرآخراستنبط صور شخصياته في الكتابة من واقع الطبقات المسحوقة . عبداللطيف البطل ، دفع به شعره إلى أن يعانق (هباش ) ، عاشره في ديوان لم يرحم ما يلتقط من صور المجتمع ، كما تبنى قصصا من الواقع المعيشي ، كتب عنها في ( جبان كولوبان)، فجاءت كتابة استطاعت أن تتكلم بلسان صاحبها .
يعنون عبداللطيف البطل ديوانه ب ( عاش مع هباش ) . ليفتح أمام مسار الزجل بوابات واسعة و رائعة في الكتابة ، سماها قبل ذلك ب ( جابان كولوبان ) حيث مزج هذا بذاك في لذة للكتابة عندما تكسر أشكال القدر. هي حياة إبداعية يهدف منها الشاعر إلى تعميق الرؤية لتحقيق لذة الكشف عن سبب عرينا ، هو ظهور بصيغة الكشف عن الحقيقية ، ليظهر ما سماه القدر كاختيار في الكتابة ، خاصة الزجل بلغة نتكلم بها ، نتنفس بها ، نحلم بها ، وبها ننقل لذة الألم وما نشعر به من قهر في وجود لا يستحق الاحترام . يقول الدكتور عبدالاله الرابحي*55 في تقديمه ديوان البطل : ( جبان كولبان صوت من خلال الطفل الذي كناه ، وهو يكابد قطع سراديب الزمن ، انبعاث فجائي لصوت موشى بحبيبات ( الشانوج ) على عصا عمودية تنتصب ضدا على أقنعة الرشد ومساحيق التجاعيد الشمطاء ، نكاية بشيخوخة الزمن ، فقط لتذكرنا بلحظة الحبور الطفولي وسعادة اللامبالاة .) ص10.
عندما نتأمل حكاية جابان كولبان ، وعاش مع هباش ، و عكاز الريح*56 لمسناوي ، وخلوني نتذكرني ، أو عندما ننظر في تأملات شاعرين لهما اختيارات متفاوتة في حياة تتقارب فيها قصة الألم والقهر، يظهر الوجود في سيرة الرجلين بصوت متقارب . نفهم من ذلك أن الزجل يحمل قضية ، يثيرها ، بها يكشف عن المجروح في سيكولوجية حياة متعبة ، في وجود مقلق ، برؤية عمقها التشظي ، وبأسلوب في الكتابة ، مميز بمرجعياته ، وما تخفيه خلفياته من أسرار، جعل منها كتابة قريبة من واقعنا ، تمس جراحها بصيغ متنوعة ، مما يجعلنا نفهم تشظينا بلذة في الكتابة ، نصفق بحرارة عن أشياء تبكينا بدون أن ندري. يقول الرابحي*57 دائما في نفس الموضوع : ( ليس في الجبة غير الزجل ، والزجال بائع الحلوى بجبته الناصعة البياض يهدي الأطفال الكبار قطعا عصية على القضم ، حلوة الابتلاع . وبين اللهفة ونشدان المتعة تمتد قطعة جبان كولبان تشرح لذة النص ، وتخلق لمنعرجات القصيدة ترنحا زجليا يؤاخي الألم بالألم ، ويؤكد أن النقيض خارج لامحالة من نقيضه .) الصفحة 10.
نخلص أن الكتابة عند الرجل تشكل قضية إجتماعية ذات حس إنساني قوي ،فكانت كتابة عميقة في محتواها ، محورها نقل الجراح والتعب بصيغ مختلفة في كتابة تحمل مضمونا إنسانيا، تشتغل على شعرية المتاهة والبحث عن الآتي. في ديوان (جابان كولوبان) لعبداللطيف البطل دلالة على عوالم متضاربة، يشكل فيها العنوان عتبةً مهمة لصناعة الحلو في توزيع المر، أو تقديم اللذيذ استعدادا للصلب المربك . كتابةٌ لها من الإيحاءات ما يثير أنها تنقل الأشكال المربكة في الحياة ، بلغة متمظهرة بعمق يحمل معان مختلفة. مع عبداللطيف البطل ستصبح اللغة أداة لتحويل المسارات المنعرجة بأشكال جد فاعلة في الذات الرافضة ، ستحمل حياة الانسان البسيط لتجعل منها موضوعا في كتابة التيه . يتحرك الشاعر في اتجاه تكليم الساكن الصامت المقلق في الذات والمجتمع. إنه كاتب استطاع مساءلة الجرح بلغة الابداع .
في ديوان اختار له لوحة مليئة بالأحمر، مختلطا بأجساد غريبة ، منها جسد يحمل أغصان شجرة متسربة من أيقونة إنسان ، في الأعلى يتمظهر نحيلا ، لكنه يتغير بأشكال مختلفة ، فتصبح الصورة للذات بحكايتين متناقضتين ومرتبتين بتناسق غير واضح ، مما يعني أن التماسك هو الآخر مختلط و مرتبك . يحيلنا على واقع يحمل الوجود بشكل أعمق ارتباكا ، فيصبح الارتباك هو لغة الصورة في لوحة تأتي بالأحمر، كلغة للحب والسعادة ، فتتحول الى جسد للتناقضات . لأن زجل البطل ، كما يذهب الرابحي *58 ( سيرة النسيان ، ومكابدة حر إيقاظ الطفل فينا . وليست جبان كولبان غير ذريعة الكائن الأعزل كي يكون له صوت يخترق المسامع نازلا نحو الأسفل ، مطمئنا مستقرة القلب ، ذاك الذي يكشف الندوب كي تبقى شاهدة على جراح بائع الحلوى … صوت الذكرى اللذيذة يشدو في جوقة الاصوات المرة ..)* 59مما يجعلنا نخلص إلى أن عوالم البطل هي في عمقها تماسك غير تام في وجود مرتبك ، وفي ظاهرها إشارات واضحة لحياة غير مقنعة . يقول البطل في ص 17:
فامداد الكلب
عافية زانده
و فتراب البلغة
اتحتحيت امعاني
هيَ علاقاتٌ ، تحيل في الظاهر على مسخ الغائب ، وفي العمق تمثل تجليا للممسوخ في الوجود المرتبك . فتتحول الحكاية كلل ، بشكل غير تراتبي ، الى أساس غير واضح . في الأعلى جسد نحيل ، في الوسط ذات غليظة ، في الأسفل ثلاث غزالات تجري مرتبة ، لتقذف بأجساد قربها قصة مرتبة بحركات تحيل على لعبة رياضية غير مفهومة . في الأعلى جثث توزع ظلال غزالين غليظين يجريان في الاتجاه النقيض ، في مقابل ذلك يتوزع العبث متشظيا ، عبارة عن جري الغزالات السفلية ، فيصبح الركض متناقضا، سرعة وجسدا . هو ركض بمسعى البحث عن العدم ، أو بحث في وجود بسرعتين مختلفتين ، ليرفق الكل بعنوان يسمي نفسه ( جابان كولوبان ) . شاعرٌ يبعثرنا معه ، لنفهم من كل ذلك ، ان قصته تشكل لعبة الحلو في صناعة المر، في حياة فيها من الركض ما يذهب الى المتعدد المتناقض . في تماسكها وتباعدها ، شكلت هوامش مهمة لكتابة رجل سماها زجلا . في الصفحة 19 ، كشف أسرار حكايته قائلا :
كيفاش انكون سكين
نطعن افجلدي
وانا ساكن لجراح
يا كانا غير مسكين
قنديل مصدي
باغي نرجع مصباح
هي إذن تجلياتٌ في حكاية وجود ، أرفقها بلعبة تعيدنا إلى طفولة غير مرتبة ، منها مؤشراتُ حياة في وجود معين ، ينقلها الشاعر بألوان مغايرة ، لتنتقل المتاهةُ بالصيغة التي رآها معبرة عن فهمه وطريقة إعادة النظر في ماضيه . من خلالها يمر بدلالاته الغابرة في الصورة الموزعة حمقا ، فيصبح الخوف لغة تركب ترتيبات شاعر لم يندمج في صدى حياة مقلقة ، يقول في ص 30 :
كيفاش انكون الخوف
نمسخ البسمة
وانا غير نوطات
نبني شطحات ابلحروف
وباغزيل النغمة
ونمسح الدمعات
تشكل اللغة تأويلا للآتي المؤجل ، فيها نفهم وجوده في حياة لا تستحق الاحترام . إنها كتابة عن المفتقد الهارب والمقلق ، الذي يرافقنا ، هو المرتبك فينا الذي نجهله ، يتحقق بتعبير يعكس أكثر من وجه ، في لوحة شعرية منكسرة . ليصبح بلغة الشعر جمالا يرتب الغيابات ، ويجعل منها موضوعا مهما في شعرية ديوان استمد الحياة من واقعه المعاش :
جبان كولبان
المال ايجيب المال
يامولا جبان
وعلاش قلت اشي محكورة ص37.
معالم عبداللطيف البطل حارقة في عمقها ، تحدد رؤية رجل في واقع ليس فيه ما يسعف ، بإحالات عمقها الحلم المؤجل ، ضفافه زمن قادم ، عرى عن المفتقد/ الغائب فينا.
ناقد من المغرب