للكتابة مباهج يستشعرها الكاتب على هيئة لذة الانتهاء من نصٍ مستعصٍ، أو ولادة كتابٍ جديد، أو ابتسامة رضا لقارئ أهداه العمل شعورًا أو فكرة، أو رفع صوته بهما نيابة عنه، وبالمقابل لا يعلم الكثيرون أن الكتابة نزفٌ من روح وعقل الكاتب، أنها صرخات ألمٍ مكتومة نبت صداها على الورق…
(مباهج الكتابة وأوجاعها) كتاب حمل بين دفتيه عصارة التجربة الفريدة التي قدمها كاتب بحجم همنجواي…
أسرار لا تقدمها إلا التجربة الناضجة، ومفاتيح سلسة لأهم أبواب أسس الكتابة، ليست قواعد علمية ولا خطوات تراتبية، إنما هي خلاصة الخلاصة لعمق معنى الكتابة الأدبية وأساليب تحقيق نجاح غايتها.
في هذا الكتاب جُمعت أهم أقوال همنجواي عن الكتابة وأهلها، عن العمل الأدبي منذ ولادته كفكرة حتى وصوله إلى القارئ، على هيئة مقولات تناثرت بين أعماله الأدبية، ولقاءاته الصحفية، والرسائل المتبادلة مع النقاد، والصحفيين، والأصدقاء…
ومع إيمان همنجواي طويلًا بأن الحديث عن الكتابة يجلب الحظ السيء، إلا أنه بتلك المقولات ترك لكل كاتب يطلع على هذا العمل حظًا طيبًا في السير بنورها في طريق عالم الكتابة.
يكشف هذا الكتاب ولع همنجواي بالكتابة، وتكريس حياته لها، ويكشف أيضا الثمن الباهض الذي دفعه لقاء نجاح تجربته التي حفرت عميقًا في ذاكرة الأدب الإنساني…
تألمت كثيرًا وأنا أقرأ أجزاء من تلك الرسائل التي كتبها بحرقة شاكيًا من تغلغل الكُتَّاب والصحفيين والنقاد في حياته الشخصية لكتابة السير الذاتية عنه في حياته، أردت أن أهون الأمر عليه، وأخبره أن اضطرارهم لتشريح تجربته حيّة إنما يدل على عبقريتها واكتنازها…
في الكتاب الكثير من الكنوز الثمينة التي لن يعرف قيمتها إلا كاتبٌ حريص أو قارئٌ فطن ومنها:
“في بادئ الأمر. يغمرنا نحن الكتاب الزخم والحماس فلا نستطيع أن ننقل أي شيء مفيد للقارئ. ثم نستهلك الزخم ويتلاشى الشعور بالحماس، ولكننا بذلك نكون قد تعلمنا كيف نكتب. كما أن ما نكتب عنه عندما نتقدم في السنّ أفضل من المواضيع التي نتناولها في ريعان الشباب.”
“بعد الانتهاء من تأليف الكتب أشعر بالإرهاق العاطفي. عندما لا يختبر الكاتب هذا الإحساس يكون قد فشل في نقل عواطفه بأكملها إلى القارئ على أي حال، هذا هو أسلوبي في الكتابة.”
“فأنا لا أكترث بالمجريات الحاصلة في عالم السياسة أو الرسائل أو الدين، إلخ. إذا كان بعض الكتاب سيحذون حذو اليساريين في الأدب الآن، أراهنك على أنهم سيتبعون اليمين فيما بعد، وسترى أيضاً أن بعض الأوغاد الجبناء سيتأرجحون بين اليمين واليسار. لكنّه من الخطأ أن يكون هناك تكتلات يمينية أو يسارية في عالم الكتابة. إن التصنيف الوحيد المقبول هنا هو إما أن يكون الكاتب جيداً أو رديئاً…”
“اقرأ كتاباً آخر اسمه “الحرب والسلام” لـ”تولستوي”، وسوف ترى كيف أنك ستتخطى جميع الفقرات التي تتناول الفكر السياسي، والتي ربما ظنّها تولستوي أفضل ما كتبه في هذه الرواية، ذلك أن تلك الأفكار لم تعد صحيحة أو مهمةً، فهي لم تكن يوماً إلا مواضيع آنية، وسترى أيضاً مدى واقعية وديمومة وأهمية الناس والأحداث في الرواية. على الكاتب ألا يتأثر بالأفكار الشائعة بين الناس في الوقت الحاضر، لذلك لا تدع أولئك يضلوك السبيل إلى العناصر التي تبنى عليها الكتب الحقيقية.”