كتبت: غصون غانم
ما يضمهُ كتاب “محاكمة كافكا الأخرى” “رسائل كافكا إلى فيليس” الصادر من دار جداول ومن تأليف الكاتب الألماني إلياس كانيتي (ترجمة نعيمان عثمان وتقديمه) من نصوص إبداعيه جميله تتنقل بين الإثاره والغموض والقلق والاضطراب والتقلبات يتناول المؤلف فيها حياة فرانز كافكا إنطلاقاً من علاقته الغامضه مع فيليس بوير وانطلاقاً من هذه العلاقه وتطورها في هذه الرسائل التي أحدثت نشاطاً إبداعياً كبيراً لهذا الكاتب كما أحدثت ذهولاً في الأدب العالمي ، هذه الرسائل التي بعث بها كافكا على مدار سنوات لفيليس منذ لقائهما الأول في شقة صديقه والناشر ماكس برود تظهر كنماذج فريده في الكتابه داخل هذا النوع الأدبي المشتت والمضطرب لتصف حياة كافكا القصيرة ( 1883_1924 ) فغموضها تجاوز نصوصه لتتشكل كحياة تعج بتشظي وسادية كاتبها ويتجلى ذلك في الواقع في قيامه بحرق للعديد من مخطوطاته قبل نشرها وحيث لم يكن لهذه الرسائل أن تخرج الى الحياة لولا قرار فيليس ببيعها الى ناشر كافكا وبعد رحيل كافكا بعقود ليتم نشرها لتفتح باباً واسعاً للسجال حول أهمية ونوعية هذا النوع الابداعي من الرسائل المصابه بعقدة الشك الذاتي واليأس الوجودي فهذا النوع من الرسائل أستحوذ على إهتمام الكاتب البرتغالي إلياس كانيتي ووجد فيها من الأهمية ما يضاهي مؤلفات كافكا ومن هنا جاء كتاب(محاكمة كافكا الأخرى ) والذي ربط فيها هذا العنوان براوية كافكا (المحكمه) التي يتعامل فيها مع ارتباطه بفيليس وتأرجحه بين الارتباط واللارتباط وشعوره بالذنب والخطيئه على ذلك اليوم المشؤوم وما آلت اليه علاقته بفيليس ، أصبح لديه شخص يمكن أن يتورط معه فيليس التي تشكل ذعراً في ذهنه وخشيته من الإقدام على التورط في الارتباط بعلاقة زوجيه معها افزعه صورة هذه المرأه كما أقلقه أن يصبح فيما بعد أباً رغم ميوله الغرائزيه نحو الزواج والأطفال وعلى هذا الحال واصل كافكا مع فيليس علاقة معذبة تارةً يتقدم للزواج وتارةً يفك الخطبة ويتراجع مرةً أخرى ليتقدم بطلب الزواج غير مرة وهكذا ، وبرغم كل هذه الهواجس وتقلبات الوتيرات بين الحين وآخر فإن فيليس كانت هي الملهمه لكافكا في كتاباته وكانت تشكل الحافز والطاقة لإطلاق إبداعاته الكامنه بدواخل نفسه ونفسيته حيث تطورت المراسلة بين كافكا وفيلس بحيث أصبحت يوميه يتم تبادلها بينهما وتظهر في محتوياتها عن شكاوى كافكا من أحواله الجسدية والصحيه والنفسيه الى جانب إخبارها بما يُنجزه من أعمال قصصية وروائيه ، في حين نجد فيليس قارئه متذوقه ومحبه للقراءه لذلك يبدو كافكا سعيداً بذلك وعندما يرسل إليها كتابه “تأملات” يبدي ترقباً شديداً لمعرفة مدى إعجاب فيليس بكتابه ويترقب ردها عليه بعد قرائته ويتوقف عند غيرته الشديدة من الكتّاب بخاصة أولئك الذين تذكرهم فيليس في رسائلها له ويذكر كانيتي انفجار كافكا من الغيرة في 28 كانون الأول (ديسمبر) أي بعد سبعة عشر يوماً من إرساله كتاب «تأملات» التي تجاهلته كلياً وفي إحدى رسائله الغاضبه يختار كانيتي هذه الرساله التي يقول فيها : «أنا غيور من كل الناس في رسالتك الذين تذكرينهم والذين لا تشيرين إليهم، رجالاً ونساءً، رجال أعمال وكتّاباً… أنا غيور من ورفل، سوفوكليس، ريكاردا هوخ، رغرلوف، ياكوبسون… ولكن هناك آخرون في رسالتك أيضاً، أود أن أخوض معركة معهم كلهم، جمعهم الكامل، ليس لأني أهدف إلى إيذائهم، ولكن لأقصيهم عنك، وأن أبعدك عنهم، حتى أقرأ فقط رسائل تقصر اهتماماتها عليك وعلى أسرتك، وبالطبع، بالطبع علي أنا» لكن صمت فيليس الهائل يبدو في آذاننا غامضًا ومأساويًا الى حد ما وظهورها يقتصر على بضع كلمات أمام إغراقنا بصمتٍ طويل وتساؤلات كثيره فهي تمتلك من الغرابه والغموض ما يمتلكه كافكا في كتاباته ومراسلاته ، لكن كانيتي ينطلق من بداية المراسلات بين فرانز كافكا وفيليس بوير ويرصد تطورها السريع ثم اختلاف وتيرتها رسائل وعبارات وصفات تعكس اختزال بدنه في نحولته وهشاشتة في سيكولوجية عوالم كافكا متكئاً على رسائل تُبرز صورة كافكا المتأرجحة بين الحب واللاحب، أو بمعنى آخر بين حاجته إلى الحب وهروبه منه، ويمكن تفسير الأسئله التي يثيرها كافكا بطرق عديدة متناقضة ولربما لن تتلقى إجابة واضحة أبدًا، تعرض كتابات كافكا حالة خاصة في مراقبة الحالة الإنسانية حيث يمكن للقارئ أن يتعرف إلى كافكا إنساناً يكتب نفسه بصيغة الأدب وبالنظر إلى قصصه ورواياته ومذكراته ورسائله وخاصه في أيامه الأخيرة عند مرضه بمرض السل فإن وجود ذاته الأساسية في كتاباته أكثر من جسده تجتمع بالفكاهة الساخرة واليأس في عفويه فوضوية فقد كانت حياة كافكا بمثابة حكم مستمر على نفسه .
تعد أعمال كافكا مثالًا للخارق باعتباره المألوف الذي يعيد تقديمه إلينا في شكل غير مألوف تأخذنا الى أعماق الحاله الإنسانيه في مراقبه حيه لها ولهذه الأعمال الغريبة والمقنعة بشكل غريب يأتينا بكل الثقل الروحي والغموض مطالبون بفك تشفير رموزها كحالة مأزق إنساني وحالة الذنب الدائمة التي لا يمكن إصلاحها في عالم تم محي منه كل أمل أنه ليس عالم كافكا المضطرب بل عالم يقظتنا والقلق المذهل الذي نختبره في مواجهة الحقيقة يبدو أن أمثال كافكا التلميح إلى اللامعنى من خلال رؤى حقيقية وهذا هو الجانب المعتم من جو الكتاب الفاتر .