الحلقة الرابعة
بقلم: فابيولا بدوي
قبل أن تُنزل الأديان، كانت المجتمعات قد خطّت بالفعل أسس سلطتها الذكورية.
في الحقول، في المنازل، في التقاليد، فرض الرجل امتيازاته، واختزلت المرأة إلى وظيفة بيولوجية: الإنجاب والخدمة.
جاء الدين في زمن كانت الذكورية فيه حقيقة اجتماعية راسخة، فبدل أن يتصدى لها بشكل جذري، تماهى معها وشرعن كثيرًا من مظاهرها، إما بتنظيمها، أو بإضفاء قداسة رمزية عليها، دون أن يعلن قطيعة جذرية مع بنية الظلم القديمة.
ولهذا، حين نتحدث عن الذكورية في الخطاب الديني، فإننا لا نتهم النصوص بأنها ابتدعت الظلم، بل نقرّ بأنها في كثير من مواضعها، باركت واقعًا لم تكن قادرة على خلخلته بالكامل.
ونحن إذ نخوض معركة التحرر، لا نتوقف عند نقد التأويل فقط، بل نمد السؤال إلى النصوص نفسها: أيّ نص يفتح للحرية أفقًا، وأي نص يُغلقه؟
ذكورية ما قبل الأديان: عندما بدأت الهيمنة
في المجتمعات الزراعية الأولى، حين تحوّل الإنسان من الترحال إلى الاستقرار، ظهرت مفاهيم الملكية والميراث، وبدأت الحاجة إلى تحديد النسب، والسيطرة على النساء بوصفهن حوامل النسل والملكية.
هكذا وُلدت البنى الأولى للسلطة الذكورية:
– الرجل يملك الأرض، والمرأة تزرع فيها وتمكث فيها.
– الرجل يحمي النسب، والمرأة تخضع لرقابة مستمرة.
لم تكن هذه السيطرة مؤطرة بنصوص، بل كانت عرفًا غليظًا سابقًا لكل شريعة مكتوبة.
قيم الدين كمرآة لواقع ذكوري
حين نزلت النصوص الدينية، كانت تخاطب بشرًا قد استبطنوا هيمنة الرجال، وبالتالي جاءت بعض تشريعاتها حاملة صدى هذا الواقع:
– قوامة الرجل على المرأة.
– تفاضل الشهادات والميراث.
– حقوق الطاعة والولاية.
كان الدين أحيانًا ينظّم، وأحيانًا يحدّ من الإفراط، لكنه نادرًا ما ثار على البنية الذكورية الاجتماعية بشكل جذري.
كيف استخدمت القراءات الذكورية النصوص؟
مع الزمن، لم تُقرأ النصوص باعتبارها احتمالات مفتوحة للعدالة، بل قُرئت عبر نظارات أيديولوجية ذكورية، فجعلت القوامة طغيانًا، والطاعة خضوعًا، والولاية سجنًا.
الاجتهادات الفقهية في معظم عصورنا، لم تجرؤ أن تفكك البناء الاجتماعي الذكوري، بل شرعنته باسم الدين.
من النص إلى القانون: حين تصبح التقاليد تشريعًا
ما بدأ قراءةً، انتهى قانونًا.
– قوانين الأحوال الشخصية رسّخت دونية المرأة باسم المصلحة العامة.
– قوانين الميراث استبقت الفروق السياقية وتحولت إلى أحكام مطلقة.
– قوانين الشرف أدانت الضحية وكرّست ثقافة اللوم الذاتي.
بهذا الانتقال، لم تعد الذكورية مجرد تصور اجتماعي أو ديني، بل أصبحت نصوصًا قانونية تفرض بالقوة.
تحالف الضرورة: الهدم والبناء معًا
– الراديكالية تفضح الأصل الاجتماعي للقيم، وتكشف أن الظلم لم ينشأ من السماء، بل من الأرض.
– الليبرالية تدفع بتأويل جديد، يحرر النص من القراءة الأحادية، ويحرر القانون من قبضة القيم العتيقة.
معًا، يفككون القيد ويؤسسون لقراءة حرة… ولقانون أكثر عدلًا ورحمة.
التأكيد الأخلاقي: مع النص القابل لمسايرة العصر
لسنا في مواجهة مع النص القابل لمسايرة العصر،
بل في مواجهة مع النصوص أو القراءات التي حوّلت الدين إلى سور من حديد حول الحرية والإنسان.
مع الإيمان حين يحمل العدالة،
وضد الظلم حين يتدثر بلغة الدين.
الخاتمة: استعادة النص، استعادة الإنسان
حين نحرر النص من أسر القراءة الذكورية، نحرر الإنسان كله — رجلًا وامرأة — من قيد لا تفرضه السماء، بل يفرضه تاريخ طويل من الهيمنة.
الحرية تبدأ من الفهم، والفهم يبدأ من الجرأة على مساءلة القراءة والنص معًا