من ينير لمن/بقلم:الشاعرة المصرية فابيولا بدوي

في زمنٍ ازدادت فيه الأضواء المصطنعة، وصار الادعاء أسرع من الفعل، تحوّل النور من أثرٍ يُرى إلى شعارٍ يُرفع. كثيرون اليوم يقدّمون أنفسهم بوصفهم «تنويريين»، كأن التنوير عضوية في نادٍ للنخب أو شارة على الصدر تُمنح بالتصريح. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يمكن لإنسان أن يعلن نفسه تنويريًا، أم أن النور لا يُقال بل يُشهد له بالفعل؟

فلاسفة التنوير الكبار لم يصف أحدٌ منهم نفسه بهذا الاسم. لم يكن فولتير ولا روسو ولا ديدرو ولا كانط يكتبون تحت لافتة واحدة أو في مشروعٍ متفق عليه، بل جمعهم شيء أعمق: الرغبة في تحرير الإنسان من وصاية الدين والسياسة واللغة. لم يسعَ أحدهم إلى لقب أو هوية فكرية، لأنهم كانوا يرون في العقل خلاصًا من القهر، لا سلّمًا إلى المجد الشخصي. وحين جاء التاريخ لاحقًا وسمّى عصرهم «عصر الأنوار»، كان الاسم تكريمًا بعد الفعل، لا إعلانًا قبل التجربة.

التنوير في جوهره ليس هوية فكرية بل حالة من الصدق المعرفي، رغبة في النظر الحرّ حتى وإن أغضب الجميع. هو فعل نقديّ يضيء لا لأنه يهاجم، بل لأنه يكشف. لهذا يفقد التنوير معناه حين يتحوّل إلى شعارٍ يُرفع أو بطاقة انتماء يتداولها بعض الكتّاب والإعلاميين، ممن يطلبون الاعتراف بالصفة أكثر من انشغالهم بفعل النور نفسه. إنهم يهاجمون كل مقدّس لا بحثًا عن الحقيقة، بل إثباتًا للذات، وكأن التنوير يُقاس بجرأة الصدام لا بعمق السؤال.

في مجتمعاتنا، كثيرٌ من اللادينيين في مواجهةٍ مفتوحة مع الدين، لأن الدين هنا ليس معتقدًا فحسب بل منظومة حكم وسلطة. هذا الصدام طبيعي ما دام الدين يحتكر الحقيقة ويُقنّنها، لكن ما يحدث في كثير من الحالات لا يرقى إلى التنوير، بل إلى كسر التابو دون وعيٍ بما بعد الكسر. منذ عقود وهذه المواجهة قائمة، لكن السوشيال ميديا منحتها فضاءً صاخبًا، فصار من السهل أن يبدو الصدام شجاعةً، وأن تُحسب الجرأة وعيًا، وأن يظنّ المرء أنه «تنويري» لمجرّد أنه يعارض. غير أن التنوير الحقيقي لا يُقاس بمقدار ما تهدمه، بل بما تبنيه من وعيٍ بعد الهدم.

من يعلن نفسه «تنويريًا» يطلب اعترافًا لا معرفة، ويستبدل سلطة النص بسلطة الأنا. يهاجم قيدًا ليضع قيدًا آخر. وهكذا يتحوّل التنوير من فعل تحرّر إلى مسرحٍ للذات الباحثة عن الضوء الخارجي بدل النور الداخلي. أما التنويري الحقيقي، فلا يحتاج إلى هذا كله، لأنه لا يسعى لأن يُرى بل لأن يُفهَم، ولا يطلب أن يتبعه الناس بل أن يفكروا مثله بحرية.

التنوير لا يهاجم الدين لأنه دين، ولا يدافع عنه لأنه مقدّس، بل يضع الاثنين على طاولة السؤال. لا ينحاز إلا إلى الحرية في أن يُفكّر الإنسان دون إذن، وأن يشكّ دون خوف، وأن يؤمن بطريقةٍ تختارها ذاته لا غيره. التنوير موقف من العالم لا من العقيدة، وفعل معرفةٍ لا رد فعلٍ على سلطة.

لهذا فكل من يعلن نفسه «تنويريًا» يشبه من يقول «أنا متواضع»، لأن القول نفسه ينفي المعنى. النور لا يصف ذاته، بل يُرى حين يبدّد الظلمة. التنوير ليس رتبة فكرية ولا وسامًا ثقافيًا، بل رحلة متواصلة نحو الصدق مع النفس والآخر. من يُنير حقًا لا يحتاج إلى أن يقول إنه يفعل، لأن النور، كما الحقيقة، يفرض حضوره دون إعلان

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!