ثمة حقيقة واضحة لم يعد من الممكن الالتفاف حولها: لم نستفد يومًا من أولئك الذين سُمّوا بالنخب. لم يمنحونا معرفة تغيّر وعيًا، ولا موقفًا يفتح بابًا، ولا رؤية تصلح اعوجاجًا، ولا خطوة واحدة تُحدث أثرًا في حياة الناس. لقد كانوا حاضرِين في الصورة… وغائبِين عن الفعل. يمارسون الوجاهة، ويتحدثون بثقة، ويُكثرون من التنظير، لكنهم لم يقدموا شيئًا يُذكر في ميزان الواقع.
إن خرافة النخبة بُنيت على فراغ مُحكم. مجموعة من الأسماء التي اكتسبت بريقًا اصطناعيًا عبر الإعلام، والظهور المتكرر، والألقاب الكبيرة بلا مقابل. ومع مرور الزمن، تحولت هذه الأسماء إلى “رموز” لم تُجرّب يومًا معنى المسؤولية، ولم تدفع ثمن كلمة، ولم تتحمل تبعة موقف صادق. كانت موجودة دائمًا فوق المشهد، لكنها لم تكن في أي لحظة جزءًا من معارك المجتمع الحقيقية.
والأدهى أن هذه النخب لم تكن يومًا منحازة للناس، بل كانت منحازة لصورها. تتغذى على التصفيق، وتعيش على الاعتراف الشكلي، وتتمسك بموقعها لأنها لا تملك غيره. فحين يُطلب منها الفعل، يسود الصمت. وحين يتطلب الأمر موقفًا واضحًا، تختفي وراء الحياد. وحين يحتاج المجتمع إلى شجاعة، يظهر التردد والضبابية، وكأن دور النخبة ينتهي عند حدود الخطابة.
ومع صعود السوشيال ميديا، تبيّن حجم الوهم. فبدل أن تفتح المنصات الباب للمعرفة، كشفت خواء عدد كبير ممن تقمّصوا دور النخبة. ظهروا بصوت عالٍ ولكن بلا عمق، وبكلمات متكررة ولكن بلا رؤية، وبحضور لامع ولكن بلا أثر. استغلوا المساحة لزيادة نجوميتهم، لا لزيادة وعي الناس. يحضرون ليُرى حضورهم، ويغادرون دون أن يتركوا أثرًا واحدًا في الوعي العام. كانوا نخبًا من ضوءٍ اصطناعي، يبهتون بمجرد أن تُطفأ الشاشة.
أما الناس فلم يحصلوا منهم إلا على خطابات متكررة وشعارات محسّنة لغويًا. لم يتلقّوا علمًا يبني وعياً، ولا تحليلًا يكشف حقيقة، ولا مشروعًا يقود تغييرًا. وفي اللحظة التي احتاجت فيها المجتمعات العربية فعلًا حقيقيًا، تلاشت هذه النخب كأنها لم تكن. وهذا هو الدليل الأقوى على أن “النخبة” في صورتها التقليدية لم تكن إلا تسمية بلا مضمون.
النخبة الحقيقية تُقاس بالأثر، لا بالاسم. تُقاس بما تقدّمه، لا بما تدّعيه. تُقاس بما تغيّره في وعي الناس، لا بما تكرره في قاعات المؤتمرات وعناوين الشاشات. وكل من لم يترك أثرًا، لا يستحق أن يُسمّى نخبة. وكل من لم يعطِ الناس شيئًا، لا يمكن أن يدّعي تمثيلهم أو الحديث باسمهم.
لقد آن الأوان لقولها كما هي: ما سُمّي بالنخبة لعقود لم يكن إلا طبقة من الكلام الفارغ. خطاب بلا فعل، اسم بلا دور، حضور بلا أثر. وحين ننزع عنهم هالة الوجاهة، لا يتبقى شيء سوى حقيقة واحدة: أن النخبة التي لم تمنح المجتمع شيئًا، لم تكن يومًا نخبة
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية