نزهة في كتاب/بقلم : نَوّار الشاطر

كتاب جدنا الكبير ابن الشاطر الذي يعتبر من المذكرات الشخصية التي تضمنت ألواناً أدبية وتاريخية وتوثيقية كتبها الأستاذ حسن الشاطر الملقب بأبي محمود وهو رقيب فني عمل على الطائرات العسكرية في القيادة الجوية السورية ، وهو الأخ الشقيق للشهيد العميد الركن صالح الشاطر الذي استشهد عام ١٩٧٨ ميلادي .
يدور الكتاب حول رحلة أبو محمود في البحث عن العالم الفلكي الدمشقي ” علاء الدين بن إبراهيم بن محمد الأنصاري المعروف بابن الشاطر ” والذي عرفه أبو محمود من حكاية لأمه فتقول فيها :
سكن الأنصار مدينة دمشق بعد الفتوحات الإسلامية ، واشتهر أحدهم وكان يلقب بأبي الحسن لأنه يعمل مؤذناً في الجامع الأموي الكبير ، وكان له حفيد يتيم صغير أحب العلم والأدب والمعرفة منذ سنين عمره الأولى ، فصار يتنقل بين مجالس العلم ، ويتهرب من العمل بورشة جده ورشة تطعيم الخشب ، وسافر لاحقاً لمصر ليدرس ويتعلم هناك بعد أن اقنع جده بأن يستورد له الخشب الثمين والفضة والعاج من هناك ، وحمل معه في رحلته براميل من الدبس ، التي خزنها في أحد الخانات بعد وصوله لمصر ليبيعها التجار له ، انتشر بعدها وباء معوي ، لم يكن له علاج سوى الخل ، ومن محاسن الصدف أن الدبس خُزّن لفترة طويلة ولم يباع وتحول إلى خل بسبب تسرب ماء البحر المالح إليه أثناء الرحلة البحرية التي تعرض فيها المركب لعاصفة شديدة ، ربح ابن الشاطر مبلغاً كبيراً من هذه الصفقة ، واستمر بعمله وتجارته وعلمه وتوريد الخشب لجده في دمشق ، حيث كسب العلم والثروة في وقت واحد ومن يومها لقبه أهل دمشق بالإبن الشاطر .
و صار له مريدين يأخذون العلوم منه ، وصار له بيتاً واسعاً في منطقة العمارة قرب مسجد السيدة رقية عليها السلام ، قبل أن ينتقل إلى الصالحية ، ويضيف الكاتب قائلاً نقلاً عن أبيه أن ابن الشاطر قاس طول الأرض وعرضها ، مع أنه لم يسمع عنه إلا أنه سافر إلى مصر …فكيف فعل ذلك ؟
هذه القصة تذكرها الكاتب أبو محمود خلال دراسته في ولاية تكساس _ فورث ورث _ مطار ميتشام فيلد _في كلية علوم هندسة الطيران و شحنت همته لينجح بتفوق في هذا الاختصاص أسوة بقدوته العالم الفلكي إبن الشاطر .
وهذا مثال حي ورائع يبين لنا تأثير قصص الأمهات على الأطفال بحيث إذا احتوت على مضمون مميز ، و بطل من تراث البلد ، كيف يتحول هذا البطل إلى قدوة في حياة الطفل يحمله معه حتى النضوج ليكون المثال الأعلى له في الحياة .
يستطرد الكاتب أبو محمود قائلاً الأقدار جعلتني أدرس تقنية الميكانيك ، وعلوم هندسة الطيران ، ومحركات الطائرات ، وبنائها وأجزائها ،و اختصاصي لا علاقة له بأدب أو تاريخ لا من قريب ولا من بعيد .
الكتاب ممتع جداً وفيه معلومات قيمة ورائعة ومنوعة ، حيث يصحبنا الكاتب في رحلات مختلفة بين حقب تاريخية مختلفة مرت في مدينة دمشق ، ويستعرض لنا معلومات كثيرة عن حياة ابن الشاطر و انجازاته و يقول :
إنني أعيد وأكرر لكم بصدق ومشاعر مخلصة أن ما أقدمت عليه والذي بين يديكم الآن ….. ليس دراسة أكاديمية أو مشروع تخرج علمي رصين !
بل ..بحث عن الذات ….وإن تغلبت بين أسطره العاطفة على العقل أحياناً ، أو تساوياً بالنقاط أحياناً .

عندما أنهيت تصفحي للكتاب ، انتابني الفضول للبحث عن قبر ابن الشاطر وزيارته ، كعادتي في من أحب من الكتاب والشعراء والمبدعين ، سواء أحياء أم أموات ، أحب التعرف عليهم شخصياً ، وزيارة قبورهم إذا كانوا موتى ، فأنا أؤمن بالأرواح وبأنها تسمع وترى من يزورها حقاً .
بحسب ما أورد د. قتيبة الشهابي أنه لم يعثر على مدفن خاص لابن الشاطر داخل أسوار دمشق ، و بحسب ما أوردت الأستاذة نبيلة القوصي في بحث لها أن ابن الشاطر توفي في دمشق في ربيع الاول عام ٧٧٧ هجري يوافق ١٣٧٥ ميلادي ودفن في ركن متواضع في جانب من مقبرة باب صغير ، و هذا ما أكده لي أيضاً د..عمار النهار ، بناء على ذلك ذهبت لمكتب دفن الموتى وتحريت عن القبر ، لم يجدوا له إشارة تدل على وجوده ، والسبب أن توثيق القبور والأضرحة في مكتب دفن الموتى بدأ بفترة زمنية متأخرة لم تشمل القبور القديمة جداً كقبر ابن الشاطر إن وجد ، وسألت أيضاً الحفارين الكبار في المقبرة فلم يعرفوه ورجحوا السبب أن بعض الشواهد القديمة جداً ربما محيت و كتبت عليها أسماء أخرى دفنت بنفس القبر .

كانت نزهة رائعة في كتاب جدنا الكبير و أدعو بالرحمة لصاحبه أبو محمود وأتشكره على هذه الروح الجميلة والشفافة التي أمتعني فيها الكتاب .

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!