نصيّة سيرة عمارة اليمني الذاتية.. للباحث د. عبدالحكيم باقيس

كتب: كمال محمود علي اليماني

بين يدي اليوم بحث للدكتور عبدالحكيم محمد صالح باقيس نشره في إحدى المجلات المحكّمة، وهو بحث قيم يستأهل بجدارة أن ألفت انتباه القراء إليه ، لاسيما ذوي الاهتمامات الثقافية بعامة ، والأدبية بخاصة.
البحث بعنوان : نصيَّة سِيّرة عمارة اليّمني الذاتَيّة في كتابه (النُكت العصرَيّة في أخبار الوزراء المصرَيّة) ، وجدير بالذكر أن الدكتور باقيس هو أستاذ الأدب العربي الحديث ونقده المشارك قسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب – جامعة عدن.
والبحث يتناول إحدى السير الذاتية المبكرة في تاريخ الأدب العربي القديم ، كتبها الشاعر عمارة بن أبي الحسن الحكمي اليمني المتوفى سنة 569 هجرية، ويهدف البحث كما جاء في المقدمة إلى تسليط الضوء على هذا النص التراثي الذي لم يتناوله مؤرخو الأدب ونقّاده إلا في إشارات موجزة عابرة.
وتلى تلكم المقدمة مبحثان وخاتمة ، سأحاول أن استعرض كل ذلك في مقالي هذا.
أما المبحث الأول فقد تناول في بدايته العتبات النصية وميثاق السيرة الذاتية ؛ لما لهذه العتبات النصية من أهمية بالغة في استقطاب القارىء .
وقسّم الباحث هذا المبحث إلى:
أولاً، وهي النقطة المتعلقة بنصية العنوان المخاتل، ومن خلال تحليله للعنوان ندرك مقدار هذه المخاتلة؛ ذلك أن العنوان ابتدأ بكلمة ( النُكت) التي كما جاء في البحث توحي بكتاب في العلوم يقوم على التحليل والتدقيق في المسائل العلمية ، حسب التعريف المعجمي لها، ففعل النكت هو علامة على التأمل والتفكير للوصول إلى إنضاج فكرة ما.
أما كلمة ( أخبار ) التي هي واسطة العقد في العنوان ، فتنزع العنوان من فضاء السيرة الذاتية إلى فضاء السرد التاريخي بقوة طاغية ( حسب تعبير الباحث)؛ وبهذا فهي تقدم النص بوصفه أحد الكتب التاريخية وليس بوصفه سيرة ذاتية، وهنا تكمن مخاتلة العنوان.
وينتقل الباحث إلى ثانياً، حيث خطاب المقدمة وميثاق السيرة الذاتية ، ويذكر تعريف (فيليب لوجون) لها ، ويشير إلى أن تعريفه ذاك إنما هو منبثق من تاريخ وثقافة عصره، وفيه مفارقة للفضاء التاريخي والثقافي العربي في عصر عمارة اليمني ، وبذا فإن الباحث لا يراه ملزما للدارسين والباحثين العرب عند تناولهم للسير الذاتية العربية في التراث العربي القديم.
ولقد قام الباحث د, عبدالحكيم صالح باقيس باستعراض مكونات ميثاق السيرة الذاتية والمتمثلة في :
1- شكل اللغة.
2- وضعية المؤلف.
3- وضعية السارد.
4- الموضوع .
وتأكد له ولنا، من خلال تحليله لتلكم السيرة وتطابقها مع مكونات ميثاق السيرة الذاتية، أن عمارة اليمني قد كتب سيرة ذاتية له بالفعل.
ولقد وجد الباحث أن عمارة قد كتب سيرته تلك في عتبات العقد السادس من حياته ، وقبل إعدامه – متهماً بالخيانة وفي معتقد الديني – بأعوام ثلاثة على أكثر تقدير.
ويشير في ثالثاً، إلى غياب الخاتمة النصية؛ إذ يتوقف السرد فجأة ، بدون أية مؤشرات نصية تدل على بلوغ السرد الاستعادي منتهاه.
أما المبحث الثاني فيعرض فيه الباحث د. عبدالحكيم باقيس الخطاب الشعري لهذه السيرة ؛ إذ حوت السيرة الكثير من الأبيات الشعرية الملفتة للنظر ، والمتأتية من أن صاحب السيرة هو شاعر في الأصل وله ديوان شعري كبير.
ويتحدث أيضا عن الوظيفة السردية وكيف تداخل صوت الراوي بصوت الشاعر، ووعي عمارة اليمني بأهمية الشعر ووظيفته في ملْ الفجوات التي يذكرها تلخيصه السريع لأحداث ومواقف كثيرة مرت به.
ثم يأخذنا إلى الوظيفة السير ذاتية ويتولى شرحها ، لينتقل بنا بعد ذلك إلى تساؤلات خلص إليها الباحث من خلال تحليله لسيرة عمارة اليمني ، وهي تساؤلات تتعلق بصلة هذه السيرة بالتأريخ أولاً ، ثم، هل هي سيرة ذاتية أم أنها مذكرات ، أم هي رحلات عمارة وتنقّله في الأمكنة المتعددة جنوبا وشمالا؟
ومع كل ذلك التداخل التأريخي بسرد الحياة الداخلية للمؤلف وسرد الشخصيات والأحداث والمشاهدات العامة ، وذكره لبعض رحلاته ، إلا أن كل ذلك لاينتزع هذا الكتاب من فضاء السيرة الذاتية ، حسب ما خلص إليه الباحث .
ثم يأخذنا الباحث إلى ثالثاً، وهي النقطة المتعلقة بسرد الحياة وثقوب النص، ويقسمها إلى مراحل، هي :
أ- الطفولة والتكوين، وفيها يذكر الباحث أن عمارة من مواليد قرية معزولة في أعلى جبل من وادي وساع ، وأهلها من بقية العرب في تهامة كما جاء في السيرة ذاتها.
ب- مرحلة التجارة والسفر، وفيها يعلمنا عن سفراته ورحلاته بين الأقاليم اليمنية والحجاز ، للتجارة أحيانا ، وللسفارات بين الولاة أحيانا أخرى، ويذكر اشتغاله بالتجارة بين عدن وزبيد ، وفراره إلى مكة إثر تآمر أعيان زبيد عليه، ثم ابتعاثه إلى مصر في سفارة سياسية إلى الخليفة الفاطمي الفائز ووزيره الملك الصالح طلائع بي رزيك.
ج- المرحلة الفاطمية ، وهي المرحلة التي تشكل الشطر المصري من حياة عمارة اليمني بتحوله إلى شاعر بلاط منذ وصوله مصر ، وتبدأ هذه المرحلة في العام 550هجرية.
وفي رابعاً، يحدثنا عن السيرة الذاتية الشعرية ، وفيها يتم تدوين الشاعر لسيرته الذاتية شعراً فقط – تأريخاً ومكاناً وحادثةً . وهو الأمر الذي لم يتعهده الشاعر عمارة ، بل راح يصوغ سيرته خالطاً بين النثري والشعري، بوصفه – كما جاء سلفا – شاعراً قبل أية صفة أخرى.
وفي الأخير ، يسلمنا د, عبدالحكيم باقيس للخاتمة التي يخلص فيها إلى أن ( النكت العصرية) سيرة ذاتية ، ويمكن عدها أول سيرة ذاتية لشاعر عربي قديم ، تتميز بالاستقلال النصي والطابع الأدبي.
كما يخلص أيضا إلى أن السيرة الذاتية فن سردي تراثي أصيل في الثقافة العربية ، وليست إحدى ثمار التعرف على الآداب الغربية كما يزعم الزاعمون.
البحث رصين، وحمل في طياته قدراً كبيرا من الفائدة المترعة بالمتعة ، وهو مادفعني للتعرف على هذه السيرة ، وإنزال كتابها من الشبكة العنكبوتية وقراءتها، وعسى أن يحدث عرضي له ذات الأثر لدى القراء.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!