هكذا تكلمت الفلسفة

 

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

في عام 1985 اجتمع الفلاسفة من شتى العصور في دمشق العروبة وتقاطروا من كل فج عميق ومن أقاصي الأرض في مؤتمرهم الأول . كانت الرحلة قاسية على بعض الفلاسفة فقد كان عليهم الحضور من عصر الإغريق وبعضهم من العصر الروماني الأول وبعضهم من الصين القديمة وبعضهم من اليابان القديمة وبعضهم من أوروبا الظلام وأمريكا العتيقة  . لقد أراد الفلاسفة إصدار بيان فلسفي من دمشق عاصمة الحياة يصحح ما اعوج من فكر . وقد دون محضر الاجتماع الأستاذ ابراهيم فاضل في كتابه ” لقاءات الفلاسفة ” وأصدرته وزارة الثقافة والإرشاد القومي في كتاب جميل في عام 1988 بعد أن اطلع عليه ونقحه الفيلسوف السوري أنطوان مقدسي. 

أراد الفلاسفة أن يلتهب الخاطر فكرا ويجتمع متجاوزا دخان السياسة بعد بلوغها سن الرشد وكما تعلمون فإن الفلاسفة يتلذذون بأداء كل ما يوكل إليهم من أعمال. دمشق هي دمشق المحطة الأبدية واليوم يجتمع فيها أصحاب الرأي قديمه وحديثه . وكان الاجتماع مهيئا للنجاح بلا قيد أو شروط مسبقة فالردهات معدة لتريح الفلاسفة والعلماء ودمشق تثق بهم وبحكمتهم وأهدافهم . لا ندري لماذا تغيب حكماء الكلدان وكنعان وبابل ممن عملوا في الذرة والفلك والرياضيات والطبيعة وفي ردهة من ردهات القاعة بدأ أفلاطون بمهاجمة النظرية الذرية الكلدانية لاعتقادها بأن القمر والشمس والكواكب الأخرى ما هي إلا حجارة وأتربة في حين أنه يعتقد أن هذه الكواكب ما هي إلا آلهة تعتني بالبشر وتحدد مسار حياتهم وتضع لكل إنسان برجا يحرك مصيره في مدار دقيق مصمم مسبقا . ثم تقتنع الفلسفة المثالية العالمية بإلوهية الكواكب  والشمس والقمر ويحكم أفلاطون على الذريين الكلدانيين بالإعدام في خطأ فادح يعرقل مسيرة الدماغ البشري وتطوره. 

كم هو صعب أن تدون محضر مجلس الفلاسفة من الشرق والغرب في رحلة تصحيح وتصويب لمسار الفلسفة وتنقيته من الشوائب الأهواء والمصالح والمشافهة. كانت القاعة رحبة الصدر فارهة القد تتسع للحب بأبعاده وأنواعه وكانت الأبواب كثيرة تستوعب ضيوف دمشق على كثرتهم . فمن الباب الشرقي دخل رواد الفكر الذري القديم وعلى رأسهم لايسين وأحشورش الاخميني ولوقيب وديموقريط يتبعهم جابر بن حيان . ومن الباب الشمالي دلف هرقليط صاحب النار وفيثاغورس المحتار بين أهله الإغريق ومعلميه المصريين والبابليين وحماته الإيطاليين  وضاع أرسطو بين سكون زينون الايلي وحركية هرقليط فبسط له أستاذه أفلاطون سجادة الوجود واللا وجود على مقعد مثالي هزاز يليق به . ومن باب الإسكندرية يدخل أفلوطين فيتعثر برصيف صور الذي لو لم يتمسك بكرسي روما وأستاذه أمونيوس سكاس لما استقرت له صوفيته . أما الحلاج الفرنسي ديكارت والحلاج الهولندي اسبينوزا فكانا يميسان بين الكون في خلقه والجوهر في ذاته. ثم وضع كانت منظار الميتفيزيك على عيني العقل المحض بينما حمل فيخته معه تناقض المقولات الاستدلالية وطرح هيغل كينونته وجلس الأخوان ماركس وانجلز على كرسي الوجود المحقق بالمعرفة والفكر والقائم على التناقض الجدلي. أما نيوتن واينشتاين فقد احتلا مقعدي الشرف . أما شبلي شميل فقد جلس في الخلف يراقب نيوتن واينشتاين يتهامسان عن ملكوت الجاذبية والأصول والرياضيات في فلسفة الطبيعة في حين بدأ اينشتاين يبشره بالبعد الرابع ومقاومة المادة للتغيرات وحركة الذرات الدائمة وتطورات النظرية النسبية . وجلس طالي يتأمل المادية الكنعانية الجدلية وكيف سيبسط الأشياء لأترابه وصفن أفلاطون كيف سيدافع عن خيالاته ويعتذر عن أخطائه الفادحة أحيانا . وتأمل شاعر القصيدة اليتمية دوقلة المنبجي كيف سيظهر لهذا الحشد العظيم جمال صراع الأضداد في قصيدته العصماء عن “دعد” وكيف سيبسط جدلية الطبيعة وجمال الاختلاف ورحمته. أما زينون الايلي فقد تنحنح من مكانه وهو يبحث عن طريقة لإقناع الناس بأن الحركة سكون والسكون حركة وكيف سيشرح أفكار أستاذه بارمينداس زعيم المدرسة الإيلية وبعد لحظة حدث ما نسميه في الفلسفة ” الصمت المفكر ” و ” الحديث الصامت” وتكاد تسمع رنين صوت الإبرة لو سقطت في قاعة تضم في جنباتها آلاف المفكرين من كل العصور. كان أرسطو التواب يجلس واجما يتطلع إلى ” أفلاطون” حينا فتتحرك التوبة في أساريره ويتذكر ” كانت ” فيحتمي بعقله المحض . لقد أوحى إليه أفلاطون بالوهم فقبله وحمل “كانت” عنه إدمان العقل فشط عن الصواب . الندم صك براءة يأخذه الإنسان للتفكير في أخطائه  فكيف يمكن أن تصل كف أرسطو إلى هذا الصك وهو بعيد مسافة 2500 سنة عنا . وتذكر كيف انسحبت الجيوش الفارسية أمام المد الإغريقي المقدوني بقيادة الإسكندر وكيف كتب له ” سر الأسرار” موجها وضابطا لسلوك تلميذه . وعندما مات الإسكندر توزع ملكه بين قادته وكانت دمشق من نصيب سلوقس والقاهرة من نصيب بطليموس . وشاركه في التأمل بنفس الأفكار والسياق إقليدس الذي ولد في صور واخترع الهندسة وتذكر إقليدس كيف طلب منه بطليموس أن يعلمه الهندسة وكيف أجابه بأن ” لا طريق هناك للملوك إلى علم الهندسة ” . وجلس رواد الأفلاطونية الجديدة مع بعضهم يتأملون المطلق والعبودية الجديدة وتسلط الحكام والتفنن في محبة الإله بجمال وتفرد لم يفهمه أحد وكان الحسين بن منصور الحلاج وجابر بن حيان ومحمد ابن زكريا الرازي وأبي حاتم الرازي والحسن ابن الهيثم والكندي وابن طفيل وابن رشد والفارابي وابن سينا والكرماني على قائمة رواد الأفلاطونية الجديدة وكانت السيوف مجلوة على رقابهم تطلب منهم الموافقة على الأخطاء المقدسة . تنحنح أبو العلاء من مقعده وهمس قائلا : ” الناس على دين ملوكهم .” ثم تمتم قائلا : ” إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت الصحيح أطلت همسي ” وتتجول العدسة بين الحاضرين لتركز على رجل يجلس بمحاذاة أبي العلاء المعري. إنه أبو الطيب المتنبي ونستغرب لماذا لا نجده في قاموس الفلسفة . ربما كان السبب هو الغباء أم انحياز بناة المعاجم . المتنبي فيلسوف وعالم نفس وعالم اجتماع أيضا . دخل مختبرات عديدة حموضها وأسسها الناس جميعا على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومفاهيمهم وطرقهم وألوانهم فهو من سمى موسيقى الحرب ضجيج والخيول المدلهمة تصهال والسيوف العربية صليل والكهول السمر رندحات . في هذه اللحظات أشارت اللوحة الالكترونية إلى عام 625م حيث سيف الدولة الحمداني وأبو فراس لتكتمل الصورة بين قائد ووزير إعلام وفقيه لا يشق له غبار . خاف أحد الحضور خيانة عينيه فهو يرى المتنبي ببصره وبصيرته وتذكره حين قال :” وإذا خفيت عن الجهول فعاذر ألا تراني مقلة عمياء ” وهمس قائلا : ” ألا ترى ما أرى يا بيكون ؟ الصوفية العقلية كلها بجوارك. ” وابتسم فرنسيس بيكون قائلا :” هو من قال : كأن بجسمي نحولا أنني رجل ..لولا مخاطبتي إياك لم ترني .” ثم تابع قائلا هو من صاغ اللطائف الفلسفية شعرا جميلا وترك دويا يتردد صداه عبر العصور حين قال :” وتركك الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر .” والدوي الداخلي أقسى من الدوي الخارجي فإذا تداول المرء أذنيه بأصابعه العشر سمع دويا  ناتجا عن كيانه وليس من خارج جسده فلا صوت بلا حركة ولا حركة بلا صوت . وقد لا نسمع حركة الأرض ونحن عليها وهذا ما تصبو إليها موسيقى النجوم في التناغم القديم . 

ثم بدأ الاجتماع لمدة ثلاثة أيام في ضيافة دمشق العروبة وكانت نتائج اللقاء الفلسفي الأولى القرارات التالية : 

  • يا فلاسفة العالم توحدوا بي .
  • تحديد تقويم فلسفي يبدأ بتاريخ 5 آب 1985 يسمى ” التقويم الفلسفي الدمشقي” . 
  • المطلوب منكم اختيار أسماء جديدة تناسب روح العصر الحالي والتكنولوجيا والنظرية الكمية واقتصاد المعرفة . 
  • إلغاء المبادئ التي فرقت الناس شيعا وأحزابا وجماعات متشاحنة متقاتلة حيث الموت والدمار.   
  • تصنيف وتبويب الخطأ والصواب عبر لجنة مشكلة منكم رغم اختلاف العصور والأزمنة . 
  • الأسس التي فرقت الناس هي

 

أسس المادية التي تقول : 

  • تسبق المادة الوعي وتنشئه . 
  • الكون أبدي لا أول له ولا أخر .
  • الكون واحد لا ثنائي “أعلى وأدنى” .
  • يمكن للإنسان أن يعرف أسرار الكون . 
  • تدرك المعرفة بالجد والجهد والتخطيط لا بالتأمل. 

 

أسس الجدلية التي تقول : 

  • لا توجد حقائق ثابتة داخل الوعي أو خارجه وتتغير هذه الحقائق مع المتغيرات الدالة على حركة الكون . 
  • الفكر والمعرفة يساويان الوجود. 
  • الوجود يساوي الأشياء وظواهرها ويحدد صيرورتها . 
  • يتم التطور الصيروري بالانتقال من الكم إلى الكيف.
  • نفي اللحظة المبدئية في التطور ونفي الطفرات . 
  • يبنى التطور على ارتباطات الأضداد بين المطلق والنسبي والثابت والمتغير والنفي ونفي النفي .
  • قد يحدث التحول من مكان إلى مكان ألطف. 

 

أسس المثالية التي تقول :

  • الروح تسبق المادة.
  • الروح لا مادية .
  • للكون بداية ونهاية .
  • الكون ثنائي أدنى وأعلى .
  • لا يمكن للإنسان معرفة الكون . 

 

فروع المثالية : 

  • الفرع التأسيسي وصاحبه أفلاطون وجدده هيغل وشالنغ باسم “المثالية الموضوعية” .
  • الفرع الثاني  اخترعه أفلوطين وطعمه بالصوفية والوجد والتأمل ولقبه “الأفلاطونية الجديدة “. 
  • الفرع الثالث طوره اللاهوتيون والفرديون واللغويون والصوفيون وسموه ” الغوث الأعظم” . 
  • الفرع الرابع خطط له ونفذه البرجوازية الأوروبية وقد أسسه ديكارت وبيركلي وكانت وفيخته وماخ وسموه ” المثالية الذاتية”.
  • الفرع الخامس روج له النفعيون وسموه ” الوجودية” و”الوضعية الجديدة” و”التوماوية الجديدة” .
  • الفرع السادس بنته الامبريالية العالمية بعد أن صاهرت جميع الفروع السابقة وأنتجت “المادية الجدلية المعاصرة “.
  • الفرع السابع اخترعه الفيزيائيون والرياضيون وبدلوا العالم العلوي بعالم الرياضيات المجرد المستقل عن الواقع وسموه “المثالية الفيزيائية الرياضية” .
  • الفرع الثامن آمن به الأطباء وعلى رأسهم يوهانز موللر الذي اعتبر أن الحواس رمز للعالم الواقعي الموضوعي  وسموه ” المثالية التشريحية “
  • الفرع التاسع أسسه النظريون بزعامة كانت وحملوا الميتافيزيق مسؤولية أن تفسر حقائق الكون وسماه “المثالية النقدية ” . 

 

وقد اتفق علماء الفلسفة على تجديد اللقاء في دمشق كلما سنحت الظروف. 

 

تمر سورية حاليا في مرحلة صراع النظريات الفلسفية على أرضها ونأمل أن يتم عقد اللقاء الثاني قريبا بعد انتصارها على أعدائها لتتكلم الفلسفة عن نفسها وعما حدث. 

 

المرجع

 

ابراهيم فاضل ، لقاءات الفلاسفة ، وزارة الثقافة ، دمشق 1988

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!