أصعب شيء في الحياة على المرء ترك بلده، ومسقط رأسه تحت أيّ ظرف مهما كان، وهذا البعاد والتباعد هو التّركُ، وهذا ما ينطبق بدلالته على كلمة هَجَرَ وهاجر من موطنه إلى مكان آخر، تعددّت أسبابها والمبدأ واحد، وهَجَر هَجْرًا أو هجرانًا أي صَرَمَه وتركه، ومن يهتجران ويتهاجران: يتقاطعان. عمومًا الهجر ضدّ الوصل، والتهاجر التقاطع.
ومن هجَرَ الشيء، آو الشّخص هَجْرُا وهُجرانا، تركه وأعرض عنه، وصَرَمه أي قاطعه وابتعد عنه. ومنذ فجر التاريخ ابتدأت الهِجرات الساميّة من جزيرة العرب باتجاهات شتى من بقاع الأرض، وتكوين دول وممالك أنتجت حضارات، ما زالت آثارها ماثلة أمامنا في بلاد الشام،
وما بين النهرين وورائهما ومصر والمغرب العربي.
وفي الثمانينات من القرن الماضي، وفي أيام حكم الرئيس المصري (محمد أنور السادات) الذي اغتيل أثناء عرض عسكري، ظهرت جماعات دينية متطرفة، هجرت المجتمع إلى شِعاب الجبال بعد أن أفتت بتكفير جميع الناس، وأرادوا إنشاء مجتمع إسلامي وفق منظورهم ورؤيتهم، وهو ما عرف بجماعات (التكفير والهجرة).
وأشهر الهجرات وأشرفها، هجرة رسول الله محمد من مكّةّ إلى المدينة المنوْرة فرارًا بدينه، لمّا انسدّت أمامه كلّ السُّبُل والمحاولات في نشره، وإعراض قريش وأهل مكْة إلّا القليل منهم على مدار أربعة عشر عامًا. وهُجْرة: الخروج من أرض إلى أخرى، وقد هاجر. وذو الهجرتيْن من هاجر إلى الحبشة والمدينة، ومن تهَجّر يكون قد تشبّه بالمهاجرين. ومن هَجَرَ في الصوم يكون قد اعتزل فيه عن النكاح.
ومن هجَر زوجته، فقد ابتعد عنها، وهي ما زالت على ذمته ولم يفترقا بطلاق. بل يكون ترك جِماعها. وقوله تعالى: (واهجروهن في المضاجع) الهجران هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره، هذا في حالة النشوز: وهو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة المتعالية المتنمّرة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، الارتفاع، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز؛ فليَعِظَها؛ وليخوفها بعقاب الله في عصيانه، فإن الله قد أوجب حقّ الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال، بعد اتخاذ وسائل التفهيم والموعظة والاقناع للنجاة بمركب الأسرة من الغرق والانهيار في خضم أمواج الحياة العاتية. وهجرُ الأحباب تركُهُم، والابتعاد عنهم بجفاء، وكان يلزمُ تعهُّدُهم.
في مطلع القرن العشرين وأواخر التاسع عشر، هاجرت مجموعات بشرية إلى الأمريكيتين وكندا، ومن ضمنهم شعراء وكتّاب، نقلوا معهم اللغة العربية، وآدابها إلى تلك المهاجر البعيدة، فأنشؤوا أدبًا يُعبّرون به عن مشاعرهم وعواطفهم، ويتحدّثون فيه عن غربتهم وحنينهم إلى أوطانهم، وأصبح أدبهم مدرسة كبرى بين مدارس الأدب الحديث ومذاهبه، وهو ما اصطلح على تسميته بأدب المهجر.
وفي الحديث النبوي; (لو يعلم النّاس ما في التهجير لاستبقوا إليه) والتهجير إلى الصلاة، المُضيّ إليها في أوّل وقتها، وورد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم; (المُهجْر إلى الجمعة كالمُهدي بَدَنَة) وهو حثّ على التبكير إلى الصلوات، ومن هجّر إلى الشيء: بادر وبكّر.
ولكن إذا هجّر النهار يكون قد انتصف، واشتدّت حرارته، ويقال فلان أهجَرَ، إذا سار في الهاجرة عند الظهيرة ذروة درجات الحرارة، وطعام الغداء في منتصف النهار هو الهَجُورِيّ.
آمّا من خرج من بلده عُنوة وقسرًا، هو من هُجّر، وسياسة تهجيريّة أي سياسة إكراه وتشريد وإرغام على مغادرة مسكن أو بلد من جرّاء الحروب والنزاعات المسلّحة، أو فتنة سياسيّة ذات طابع فئوي طائفيّ عنصريّ مقيت، ورجلٌ مُهجّر أي تمّ تهجيره، وترحيله من موطنه. وأشهر تهجير جماعي في التّاريخ الحديث، عندما اغتصب اليهود فلسطين؛ فشرّدوا وقتلوا أهلها ومازالوا يعملون على تهويد فلسطين كاملة من خلال صفقة القرن وطرد ما تبقّى من الفلسطينيين، والتهجير الجماعي الذي حدث في العراق بعد الاحتلال الأمريكي والفارسي، وما حدث من ثورة مضادّة من الأنظمة الدكتاتورية في مرحلة انطلاق الربيع العربي، وما بعد ذلك.
وببت مهجور: بيتٌ خالٍ هجره أهله، وامرأة مهجورة: متروكة، وجزيرة مهجورة: غبر مسكونةً أي لا أحد على سطحها، وشخص لا يتكلّم إلّا بالمهاجر: بالقليل من الكلام، والمُهجِر: الفائق الفاضل من كلّ شيء، وفتاة مُهجِرٌة: تفوق غبرها حُسنًا واكتمالًا، وناقة مُهجِرة: فائقة في الشّحم والسِّمَن وفي السّيْر، والهجراء: الغِنَاء والكفاية.
وهَجَرْ هي بلد في اليمن، وهَجَران قريتان متقابلتان في رآس جبل حصين قرب حضرموت، يقال لأحدهما (خيدون) و(دمّون)، وهناك قرية كانت قرب المدينة المنورة إليها تنسب القلال، أو تنسب إلى هَجٌر في اليمن، وعموم أرض البحرين يطلق عليها اسم (هَجَر)، وفي قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (عجبتُ لتاجر هجَرَ).. كأنه أراد بذلك الإشارة لكثرة وبائه. وهَجَرَةٌ ذي غبب هي قرب ذمار في اليمن، وهَجْرَة البُحيح قرب صنعاء.
وهاجرُ أم اسماعيل عليه السلام، ويقال لها: (آجَرُ) أيضا، والشيخ (إبراهيم الهَجَري) الذي ولد 1804م في قرية (أشرفية صحنايا) من ضواحي دمشق الآن، نشأ وترعرع فيها، هو صاحب الفراسة الصائبة (مكاشفة اليقين ومشاهدة الغيب)، وهو أهم أقطاب الديانة الدرزيّة، انتقل إلى جبل حوران المعروف الآن بالسويداء (جبل الروز)، كان ذو علم وأدب، حاز محبة وقلوب أتباعه، وتسلم السيادة الدينية العليا، وأمرهم ببناء الخلوات، وتدارس الرسائل الشريفة على مدار الأسبوع، التي تحتوي على تعاليم الديانة.
أما الشيخ (عبدالحميد المهاجر) فقد ولد 1950م، وهو رجل دين شيعيّ عرافي، مؤلف للعديد من الكتب الدينية والتاريخية، ومؤسس كلية الإمام الحسين للخطابة في كربلاء، والمهاجر لقب أطلق عليه لكثره أسفاره وتنقلاته، ويجيد اللغة الإنكليزية والفارسية إضافة للعربي، واسمه الحقيقي (حميد كزار عبدالرضا عبدالواحد الشمرتي).
وعطاء الله مهاجر اني صحفي إيراني، وكاتب في جريدة الشرق الأوسط، شغل منصب وزير الثقافة، وعضوية مجلس الشورى والإيراني، والعديد من المناصب الهامة.
وبالانتقال إلى عالم الأدب الروائي، هناك رواية (المهاجرون) للروائي السويدي (فيلهلم موبرغ 1898_1973) وهي أهم أعماله التاريخية عن المهاجرين السويديين الذين بلغ عددهم أكثر من مليون، ورواية (المهاجر) للروائي (علي إبراهيم الكراكي) تحكي قصة عائلة من جزيرة كريت اقتلعت من أرضها بعد حروب أهلية، حيث استقرت في مدينة طرابلس الشام. ورواية (المهاجر) للروائي (صالح بن مطر الهطالي) صدرت 2010م، قصة شخص هاجر إلى أمريكا سعيًا منه للغنى والثراء، ورواية (المهاجرون) للعبقري (سليم اللوزي) تحاكي الواقع العربي في الستينيْات والسبعينيات من القرن الماضي على شواطئ (الريفيرا) الفرنسية، في لقاء أصدقاء النضال الثوري.. المهجرين.
ورواية (المهاجرون) للروائي المصري (صالح مرسي)، وأخيرًا رواية (عودة المهاجر) للروائي العراقي المقيم في بريطانيا (فهمي محمود شكري)، تحكي قصة أسرة عراقية مقيمة في الكرادة في بغداد، هاجر آخر أفرادها إلى بيروت، وركب الباخرة، ووقع صحية مافيات تهريب البشر، ووصل إلى إندونيسيا ثم استقر في سنغافورة، وأصبح بطلًا رياضيّا.
من اللافت للنظر في هذه العناوين الروائية على اختلاف قصصها ومنابتها وتوجهات كُتابها، فإنها جميعًا تنصبّ على الحالة الإنسانية التي عانت منها البشرية على مدار التاريخ، هربًا من الحروب والدمار إلى ملاذات آمنة والعيش بسلام وأمان.
و(لا يحلّ لمسلم أن بهجر أخاه فوق ثلاث ليال) تنبيه نبويّ هادف لتمتين العلاقات والروابط الاجتماعية بالمحبة، وهجرة المعاصي تركها، الدراسة، والوظيفة، ومن هجر مخالطة الأشرار، فقد تركهم وأعرض عنهم صيانة لحياته من الأذى الذي سيلحق به. والهجرة إلى الله اللجوء إليه في كل الأحوال، واستمداد العون والطمأنينة النفسية في مواجهة القلق واليأس والإحباط وصعوبات ومشاقّ الحياة.