سليم النجار و غصون غانم يحاوران الأسير عبد الرحمن المقادمة

الأسير عبد الرحمن المقادمة

-١- أسرى الحرية يناضلون لرفع الظلم عن شعبهم٠
-٢- الأسيرات الفلسطينيات ظروفهن صعبة ويتعرّضن لأبشع الجرائم في سجون الاحتلال الإسرائيلي٠
-٣- الزنزانة لونها رمادي يدخل الكآبة للنفس ويبعث على الاستفزاز لا شيئًا هناك يبعث على الحياة٠
-٤- أصبحنا من شدّة الإحباط لا قيمة للوقت٠
-٥- لديّ سؤال: ما العمل المطلوب٠

حاوره:سليم النجار- غصون غانم
المقدّمة:
حاولنا أن نفهم قيامته العجيبة – ونهوضه من هجين الماء والطّين والموات٠ وندرك الدّهشة الخرساء التي أنطقت ضوء زنزانته التي تفطّرت لها الأرض، من رحمها الغائر، كالكسر، التي تجمعه سنوات اعتقاله٠
الأسير محمد حسن المقادمة من مخيم جباليا شمال قطاع غزة والمحكوم بالسجن “١٨” عامًا يعاني من روماتيزم في الركب الأمر الذي يؤثِّر على حركته ويزيد من معاناته في ظلّ الاستهتار الطبيّ٠
اعتُقِل المقادمة في عام ٢٠٠٧ بتهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان وقتها يبلغ من العمر ٢١ عاماً وأكمل تعليمه الجامعي في تخصص التاريخ داخل السجن من جامعة القدس المفتوحة٠
ظلّ الليل قرينا، يفسد خلتنا وهج بارق، وشيء كالعصف٠ تربّعت كلماته لوحة تستعيد حياته ما قبل الأسر وأثناء الأسر، وما بين وبين كانت وما زالت فلسطين بوصلته٠ حاورناه بطريقة تليق بأسير الحرية، فحاورنا بنص أدبي أهداه لطفلة الأسيرة فرح باكير، وعاد بنا إلى ذكرياته، وقلقه، فكان الحوار نصًا اجترح فيه حكايات الحياة، بدلا من حوار السين والجيم، فالبوح الذي قدّمه الأسير المقادمة لا يليق إلاّ أنْ يكون كما أبدعه٠٠٠:

في كل يوم..، وصباحها الباكر..، تذهب برتابة معتادة مع صديقتها وجارتها إلى المدرسة..، دائماً سوياً في رحلة الذهاب والإياب..، تحمل على كتفها حقيبتها بمتعة المشقّة في درب المعرفة..، بزيّ الطالبات الرسمي..، في مشهد روتيني معتاد بازدحام الأزمات المتراكمة عبر المكان..، بقِدم الطرقات وبلاطها داخل القدس.. والأزقّة.. عبق التاريخ المغاير، والأصالة..، وبعراقة حجارة الجدران..، ولو سُمح لها التكلم …!، لتحدّثت عن الشعوب..، التي غزت عبر زيارة..، أو الغزو..، نية الصلاة..، أو عابر سبيل..، كيف لا.. وهي القدس..، ويكفيها أسدها..، قادتها..، ومركزها بين الأمم..، والحضارات..
مرح..، تلك الزهرة اليانعة في ربيع ندى عبيرها.. بستة عشر عاماً لم تتممها بعد..، وعند دخولها البيت تكون كفراشة عبر نسمات الهواء في أدبها وأخلاقها..، ترسم الابتسامة في أرجاء المكان مرحاً وفي نفوس الأهل خاصّة أمّها..، كلّها نشاط وحيوية بعطائها ومساعدتها الآخرين بتميّز وذكاء متفوّقة في دراستها، مجتهدة ومرحة داخل الفصل وبين زميلاتها والمعلمات.. كانت طفلة تعبر الشارع عائدة من مدرستها، وكان هناك يقف ذاك الجندي العنصري الحاقد..، ادّعى متذرِّعاً بأسباب واهية تملؤها الكراهية بأنّها هاجمته لتقتله بسكين…! طفلة مقابل جندي…! ولو كان ادّعاؤه صحيحاً بدعواه..، وإذا أراد هدّها.. فكأنها صفعة واحدة ليلقيها مغشية في أرضها..، لكنه بحقده المتشبِّع حدّ الإغماء…أطلق من سلاحه أربع عشرة رصاصة في يدها اليسرى، كانت كفيلة لتلقيها غارقة في دمائها، ويدها والرصاصات.. هي كفيلة بتهشيم عظامها والمفصل إلى الكتف..
مرح.. مثخنة بالجراح في أرضها منذ ساعات مستلقية في إغماء… مغمى عليها، نزفت دماءً حدّ الموت، وكان مقصوداً بسياسة الاحتلال الإهمال الطبي، لم يتمّ إسعافها مباشرة، وصلت المستشفى تحت حراسة مشدّدة..
الوالدة، وبعد سنوات وفي الذكرى السنوية السادسة لاعتقالها..، تجلس مع صديقتها الوفية وصديقات مرح من أيام الدراسة وواحدة أسيرة محررة.. اجتمعنا وفاءً لها ولأهلها وللقضية، وقد حكم عليها بثمان ونصف من سنوات الظلم في محاكم خفافيش الظلام التي تدّعي العدالة، أمّها ومن يوم غابت مرح غربت من البيت شمس الفرح وبهجة الحياة ومعناها، وسكنت قلوبهم الأوجاع، والآهات وسكبوا الدموع دماً.

الوالدة.. ومن مجلسها.. الكل من حولها يواسونها ويصبرونها..، تلك الأمّ الرؤوفة مفطورة القلب على عزيزتها مرح الحياة..، مستذكرة..، كيف اتّصلت صاحبتها التي بجوارها تناظرها..، لكي تعلمها يومذاك عن الخبر لتعتقد يومها أنّها تمازحها..، راودها الفكر للحظات أنّها كذبة نيسان…! لكنّ الشهر تشرين الأول/أكتوبر..، أو لعلها مزحة من العيار الثقيل..، لكن صوتها عبر الهاتف اخترق القلب وهو يبكيها بتقطع عبراتها والكلمات..، كان صوتها يعتصر حزناً وينزف ألماً..، حينها أدركت الأمر أنّ الخبر كارثةٌ..، فقد تابع المشهد عبر منصات التواصل الاجتماعي..، ذهبوا مسرعين..، لم يسمح لهنَّ يومها بزيارتها في المشفى أو حتى نظرة سريعة ..، تراود الأمر أفكار حدّ الجنون..، تلك الطفلة أصبحت أسيرة الكيان الحاقد..، وبعد يوم من اعتقالها تتذكّر عندما أجرت العملية الأولى لانتزاع الرصاصات..، واستقر بعضها في الجسد..، وبعد عشرين يوماً.. وبعد إزالة الالتهابات تمت عمليه زراعة بلاتين داعم عوضاً عن العظام …

أم مرح..، وفي مجلس الوفاء لذكراها..، تحدثهنَّ عن آخر زيارة لها في زمن الكورونا “كوفيد١٩” الذي اجتاح العالم ووصل داخل السجون الإسرائيلية..، قد أصبحت ابنتي ناضجة الوعي..، تلك التي تركتنا طفلة قبل سنوات..، لم تعد كذلك..، فقد أمضت أوقاتها في سجنها رغم مرارة البعد والحرمان وأوجاع الجروح وآلام الأعصاب والمسكنات وخاصة آلام فصل الشتاء..، وطقسه البارد..

نظرت، وهي الأسيرة المحررة إلى الوالدة وأشارت برأسها على صحة الكلام.. وقالت:
الأسيرات في الدامون أوضاعهن صعبة..، هناك تقصير بحقهن..، ومن جوانب كثيرة..، وهن متعايشات مع الوضع الراهن قدر المستطاع وما هو ممكن رغم قلّة الحيلة..، أمّا عن أخبار مرح..، قد عشنا سوياً وتعرفت عليها..، صحيح أنّها تعاني فقدان الأهل والبعد والغياب..، وصحيح أنّها تعاني من يدها.. والعجز القائم في العمل الوظيفي بشكله السليم..، إلاّ أنّها تجاوزت كلّ الصعاب وهي كتلة نشاط حيوية..، تساعد الجميع وروح الجماعة عنوانها..، تقرأ كثيراً وتعرف كيف تستغل وقتها وتستثمره.. مكافحة في دراستها رغم قلة الأدوات العلمية والمعرفية..، فالمكتبة متواضعة…، مرح لا فراغ في يومها.. وقد أنهت امتحانات الثانوية العامة بمعدل80%، وهذا نجاح وتفوق..

الوالدة تناظر صديقات ابنتها وهي ممتنة لزيارتهنَّ..، وقد أثرت إيجاباً شاكرة لهنَّ على الوفاء.. ومقدره على الصحبة.. وأتبعت قائله:
رغم كل الصعوبات.. هي صامدة.. صابرة.. مؤمنة بقدرها.. يغمرها الأمل واللقاء..، كلها شوق وحنين.. شامخة بعزه.. ويقابلها حقد السجان وظلمة السجن وقهره..، وحكمها الجائر..
صمتت الوالدة لوهلة، شاردة الذهن لذكرى آخر زيارة..، عندما دخلت إلى قاعة الزيارة..، تلاقت العيون وتخلّلها حوار يفيض بمعاني الحنان والرحمة.. ما بين نصيحة ووصية.. إلى عتاب.. تغمره المشاعر..، تذكر الزيارة.. لتنزلق دمعةٌ حارقة في مقلة القلب تنبض بالحنين في وجع الغياب… صاحبة الوالدة تربت على كتفها مواسية إياها، وقالت:
لا تحزني! ابنتك أصبحت شابة بكامل الوعي، وتساعد من حولها، الدنيا علمتها ومن داخل سجنها، لم تعد الطفلة…، فأبت قبل أعوام، لتصبح زيتونة متجذرة في أرض الوطن، تظلل بأغصانها العطاء والعمل ﻷخواتها الأسيرات، أصبحت تمثلهن أمام السجان لتطالب بحقوقهن اليومية، تقدِّم لهن بروح الأصالة..، وتجمع بينهن..، وتقف إلى جانبهن..، وتخفف عنهن من عذابات القيد قدر المستطاع، وهي عنيدة الرأس بطبعها، فلا مستحيل في قاموس حياتها..
والبعد عن الأهل..، فالأسيرات ظروفهن صعبة وخاصة، وهي تساعد قاطعت الحديث إحدى الصديقات اللاتي شاهدن الحدث حينها، وقالت: مرح! أذكر الحديث وكأنّه في الأمس القريب، كان اليوم الثاني عشر من أكتوبر، كانت نقطة تحوّل..، بمسار حياتها..، فقدرها الذي جمعها بذلك الجندي الحاقد غيّر حياتها من الجذور، كانت تطمح أن تدرس سكرتيرا طبية، وكانت تحب المساعدة (مساعدة كل الناس) لكن بإرادتها الطلبية قبلت المحنة والأسر إلى منحة وفرصة إيجابية..، وأضافت دربها المظلم بزيت القلم والمعرفة ونور العقل..، وقد لخصت كتبا كثيرة..، لتبني لنفسها عتبات ثابتة لدخول الجامعة والرقي على سلم النجاح والتفوق…
ابتسم قلب الأم فرحا ومن عمق القلب لإنجازات عزيزتها، وقالت:
هي مصممة على إكمال دراستها، وفي كل زيارة تقول لي بروحها المرحة ومعنويات صلبة وكفاح وعزم.. وأنّها بين أخواتها الأسيرات تردّد دائما عليهن: عندما يفرج عني، وأصبح طليقة في سماء الحرية، سأكمل دراستي الجامعية، وسألتحق بكلية الحقوق، لأصبح محامية، فالسجن علمني الكثير، والكثير سأمضي صوب هدفي، ولن ألين دونه أو أتخلّى عنه، وسأعمل بكل الجهد الممكن لرفع الظلم الجاثم على صدر الوطن والقائم على شعبي.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!