حين أتذكَّر الثرثارين، أضحك وأقول: يا لطيف!
ويمرُّ في مخيلتي بعضُ الصور التي رسمها لهم فنانو الكاريكاتير.. فمٌ مفتوح بحجم مغارةٍ أو مغارتين! فمٌ يخرج منه لسان بطول خرطوم سقايةِ الحدائق! فم على شكل ماكينة فرم اللحم، تتدفقُ من واجهتها كلماتٌ بلا نهاية!
بطلُ الثرثرة في إحدى المدن التي نُقلتُ إليها موظفاً شخصٌ يُلقَّب بجَعْجُوع، كان لسانُه لا يدخل إلى حلقه حتى وهو نائم، يتكلم.. يتكلم! ولا يتيح لجليسه فرصةَ المشاركة أو الراحة أو حك الرأس! لا يراعي أصولَ الكلام من قريبٍ أو بعيد مع أنه موظف كبير يحمل شهادةً جامعية، وشغل عدداً من المناصب! تقول أمُّه منذ صغره كان يهرب منه إخوته وصبيانُ الحارة من كثرة كلامه، لذا.. تراه يضع أمامه في البيت مخدَّةً سمَّاها: أم يحيى، ويندفع للحديث معها.. أم يحيى اسمعي ما جرى لي في الحمَّام، أم يحيى اسمعي ما جرى لي وأنا ألعب بالغازول.
ذاتَ صيف وقد أصبح كبيراً حاصره المشيب، وصار جميع أبناء جيله يفروُّن منه بتغيير الطريق، أو التظاهرِ بعدم رؤيته أو توجيهِ الرقبة يميناً أو يساراً في عكس الجهة التي يمر منها، وأحدهم- وهو جاره في البناء المقابل- كان لا يخرج حتى ينظرَ من النافذة ليطمئن على عدم وجوده في الشارع! في ذلك الصيف أمسكَ على باب المسجد بشاب خجول يُدعَى: شادي، وراح يُحدِّثه دون انقطاع، وبلا هوادة! كانا قد أدَّيا معاً صلاةَ العصر، وشادي- احتراماً لفارق السن بينهما- استسلم له صامتاً، حدَّثَه أولاً عن كثرة حُسَّاده في العمل، فذكرَهم واحداً.. واحداً بالاسم والصفات، بالإضافة إلى أسماء آبائهم وأمهاتهم، والحارةِ التي ينتسب إليها كلٌّ منهم، و..و.
أخذ شادي الخجول وهما واقفان يضغط إحدى فخذيه على الأخرى، فابتسم جَعْجُوع قائلاً:
– بسيطة.. يبدو أنك بحاجة إلى دورة المياه. أليس كذلك؟
ما كاد شادي يعلن صحة استنتاجه حتى أخذه إلى زاوية حائط، وهو يقول:
– افعلها هنا. خذ راحتك، للأسف أغلقوا مباول المسجد، ولن يفتحوها إلا عند صلاة المغرب.
بعد انتهاء شادي حدَّثَه عن مشاكله مع جارته أم علاء، وهي امرأةٌ لصة تسرق الأحذية من أمام عتبة منزلهم في العمارة، وذكرَ بمنتهى الدقة عددَ الأحذية التي سطت عليها، ولم ينسَ قيمةَ كل منها، ومن أين اشتراه!
وضع شادي يده على بطنه، فنظر إليه جَعْجُوع بإمعان، وتمتم:
– يبدو أنك جائع، وغداؤك متأخر، لحسن الحظ أحمل في جيبي هذه الكعكة، خذها أسكت بطنك بها!
انتقل بعدئذٍ بسرعة البرق إلى حديث السياسة، فبدأ برجالها الحاليين في بلاد العرب، ثم وصل إلى السلطان رشاد، وعبد الحميد، وهارون الرشيد، ومعاوية بن أبي سفيان، وتوقف طويلاً عند شخصية أبي بكر الصدِّيق!
حاول شادي أن يستأذن، فاعترضه قائلاً:
– تريد الذهاب يا شادي الحبيب؟ وماذا البيوت يا أخي غيرُ ثرثرة النسوان الفارغة! تعال.
سحبَهُ من يده، كان أمام حديقةِ منزل مفتوحةِ الباب كرسيان، فقال بفرح:
– اجلس، وخذ راحتك. أتعلم بأن الإنسان لا يُحسِنُ الكلامَ ولا الإصغاءَ واقفاً؟
تربَّعَ على كرسيه كأمير، وبدأ بحماسة منقطعة النظير جولةَ كلامٍ جديدة، مدارُها هذه المرة كفاحُه الشخصي، وتفرغُه للإنجاز دون إضاعة أي دقيقةٍ أو ثانيةٍ من الوقت، كان يستعين بإشارات يديه، وأحياناً يضرب برجله على الأرض، ولشدة انفعاله مسح العرقَ عن جبينه عدة مرات، ولمَّا نفدت مناديله طلب منديلاً من شادي!
مضى أكثرُ من ثلاث ساعات، نهض بعدها قائلاً:
– لن أطيلَ عليك أخي الغالي، زوجتي بانتظاري، وقد وعدتُها أن لا أتأخر.
لأول مرة تكلم شادي بقوة وهو يمسك ذراعَ الجَعْجُوع:
– لا.. وألفُ لا لن أسمح لك أن تذهب. لقد صلَّينا العصر سويةً في المسجد، وها هو المغرب يؤذِّن سنصلِّيه معاً.
