الفصل السادس من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

قدَّم صالح على إجازة ليوم الخميس؛ هناك سعادة بالغة تنتظره، هو يوم تخرُّج رشيدة من الجامعة، كم كانت سعادتهما بالغة في هذا اليوم، لقد أكملت دراستها الجامعية الآن.. طلب صالح من أهله وأهلها المكوث في المنزل، حتى يعودا ثم يقومون بالاحتفال جميعًا.

 

  في صبيحة يوم الخميس أفاقا من نومهما باكرا، كان الإرباك بادياً على مُحيّا رشيدة.. تذهب في البيت جيئةً وذهاباً، ولا تدري ماذا تفعل.

 

  جلس صالح يحتسي قهوته التي أعدَّها بنفسه، ينظر إليها مبتسماً.. يقهقه عند كل حركة مربكة من رشيدة، خاصّة عندما سألته عن ثوبها الذي كانت تحمله بيدها.. يطلب منها الهدوء، لكنها كانت تستعجله في تحضير نفسه.. فشوارع عمّان مليئة بأزمات السير.. واليوم هو يوم تخريج طلبة الجامعة الأردنية، وبلا شك بأنه سيكون هناك ازدحامٌ كبير على سيارات الأجرة، وفي الطريق أيضاً، وسيكون برعاية ملكيّة، وهذا سببٌ آخر لوجود أزمات السّير، لكنّ صالح طمأنها بأنّ صديقه د. فالح سيحضر ليصحبهما في سيارته السوداء الفارهة.

 

  د. فالح.. كان قد أنهى دراسة الطب في الخارج، عاد ليتم تعيينه في مستشفى البشير، كان ثراؤه واضحاً، حتى أن والده كان قد أهداه سيارة جديدة يوم تخرّجه وعودته للوطن.

 

  كان شاباً ذكياً، أنيقاً، وجذّاباً؛ امتاز بهدوئه وحبه للحياة ورفاهيتها.. يلبس أجمل الثياب.. يحمل في يده سلسلة طالما لعب بها.. كان يلفّها على أصبعه السبابة، ثم يعود ويحلها، وهكذا…

 

  بدأ طابور الخريجين بالاصطفاف، هناك فتاة شقراء ذات شعر أملس مسترسل، ممشوقة القوام، تتبختر في مشيتها الجذابة، كأنّها طاووس يختال في مشيته، بدا ثوب التخرج عليها قصيراً إلى حدٍّ ما وذلك لطول قامتها.. لكنّ ما تلبسه تحت الروب وما ظهر دلّ على تواضع لباسها.

 

  من المؤكد أنها فقيرة.. ففي هذا اليوم، “والذي لا يسبقه في حياة الفتاة سوى يوم الزفاف”، تجد أن كل فتاة تلبس أجمل ما لديها وأفخمه، أشار صالح بإصبعه إلى رشيدة وقال للدكتور فالح: أنظر يا فالح! ها هي رشيدة هناك.. تراقص حاجباه غبطة وفخراً، حينما شاهد حبيبته بين صفوف الخريجين، كالعصفور الذي يتلاعب بذيله فَرِحاً، ناسياً أنّ د. فالح يقف إلى جانبه.

– د. فالح- أين هي يا رجل؟ أنا لا أستطيع تحديد مكانها!

– صالح: هناك ..”مؤكداً ومشيراً بإصبعه ثانية”

– د. فالح: أين بالضبط ؟ لا أستطيع تحديد مكانها!

– صالح: هي قريبة منّا يا رجل!

– د. فالح: هل هي التي على يمين الفتاة الشقراء؟

– صالح: نعم.. وتلبس “شالاً” أزرق اللون…

– د. فالح: ولكن.. من هي البنت التي بجانبها، تلك الفتاة الشقراء، أتعرفها؟

– صالح: نعم .. فهذه صديقتها المقربة “ياسمين”

– د. فالح: فعلاً أنها ياسمينة “همس بصوت منخفض”

– صالح: ماذا تقول؟

– د. فالح: لا.. لا شيء مهم، لننتظر التخرّج الآن.

 

بعد انتهاء حفل التخرج، جاءت رشيدة ومعها صديقتها ياسمين، التقاهما صالح و د. فالح.. قدَّمت رشيدة صديقتها إلى الدكتور فالح وقدَّم صالح صديقه إلى ياسمين.

 

  رحّب بهما د. فالح ومدّ يده للسلام على رشيدة، سلمت عليه وبارك لها تخرّجها، رمق ياسمين بنظرة استحسان، فضحته عيناه حتّى أن صالح ورشيدة لاحظا ذلك، عندها قطع صالح حبل أفكارهما.

– وقال: هيا تفضلوا لنذهب إلى البيت.. الكلّ بانتظارنا للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة.

– د. فالح: نعم هيا.. تفضلوا…

– ياسمين: أنا أستأذنكم فوالدي ووالدتي بانتظار عودتي لنستكمل فرحتنا.. عليَّ أن أعود بسرعة!

– رشيدة: لا تقلقي سنأخذك معنا.. فالدكتور فالح أحضر سيارته واصطحبنا معه، ونحن أيضا سنصحبك معنا، ثم سنذهب إلى البيت لتقديم الحلويات لكم وللعائلة.

  مدّ صالح ذراعه لتستند إليها رشيدة، كما يفعل مربو الصّقور، كنوعٍ مِنْ أنواع الأدب أو “الإتيكيت” في المعاملة، لإعلان احترامه وحُبّه لها أمام صديقه وصديقتها، غادروا المكان، وقبل وصولهم للسيارة بأمتار بدأت رشيدة بالتقيؤ، وأصابها دوار شديد، أمسكت بكتف صالح بقوة، طلبت منه الذهاب بها إلى المستشفى فوراً.

 

  ذهب الجميع معها، هناك اهتم بها الأطباء كثيرا، حاولوا إنجاز فحوصاتها بسرعة كبيرة، حيث أنّ الدكتور فالح يعمل في نفس هذا المستشفى. بعد دقائق قليلة جاءت النّتيجة.. بشَّر الطبيب صالح بأنّه ينتظر مولوداً جديداً، وعن قريب سيصبح أباً.. قام بكتابة وصفة طبية تحتوي على أدوية مقوّية.. سُرَّ الجميع بالخبر.. باركوا لرشيدة وصالح.. انطلقوا عائدين إلى المنزل والفرحة تملأ قلوبهم جميعاً.

 

  السيارة تسير في شوارع عمّان وكأنها حمامة سوداء. انحرف د. فالح عن الطريق المعهودة، نظر إليه صالح وسأله عن وجهته، ابتسم د. فالح ولم يجب، نظر إلى صالح، وابتسم ابتسامة طمأنَة تنمُّ عنْ غبطة وسرور، استمر في طريقه وهو يسترق نظرات إلى ياسمين، لمْ يستطع إخفاءها، بعد قليل توقف وترجّل من السيارة.. غاب بضع دقائق ثم عاد، فتح خزانة سيارته الخلفية ووضع فيها شيئاً ما، ثم عاود المسير متّجهاً إلى  بيت صالح.

 

  حاولت ياسمين أن تستأذنهم بالمغادرة فوراً، لكنّ رشيدة أصرَّت عليها أنْ تشاركها فرحتها ولو لدقائق قليلة. وافقت ياسمين، ودخلت للبيت، إلّا أنّ د. فالح تأخّر عنهم لثوانٍ معدودة، فتح خزانة سيارته وأخرج ما بها، ثم لحق بهم.

 

  كان الأهل مجتمعين يستمعون لأغنية عبد الحليم حافظ “وحياة ألبي وأفراحه” من المذياع، هذه الأغنية الّتي  تُذاع دائماً بمناسبات النّجاح والتخرُّج، ردّدها الجميع مع المذياع:

(وحياة ألبي وأفراحه.. وهناه في مساه وصباحه

 

ما لقيت فرحان بالدنيا.. زي الفرحان بنجاحه)  

           

  أراد صالح التحدث، لكن د. فالح استأذنه بالتّكلم قبله، قدَّم هديته والتي كانت عبارة عن سرير طفل، وأعلن عن الفرحة المزدوجة لرشيدة وصالح، فرحة التخرج والحمل، بارك للخريجات واصفاً ذلك اليوم بالتميّز والسعادة للجميع.

 

  التفت إلى ياسمين.. بارك لها مرة أخرى بمناسبة تخرُّجها، بينما قدّم صالح لرشيدة خاتماً من الذهب لم تكن تعلم به. فرح الجميع.. تناولوا الحلوى.. استأذنت ياسمين بالمغادرة لتُفرِح والديها، وكذلك استأذن د. فالح ليُتيح لهم أنْ يفرحوا بمناسباتهم. يومٌ بدا وكأنّه يوم عيدٍ لرشيدة وصالح، بدأ صالح يتراقص فَرِحاً أمام رشيدة.. يمُرُّ بكفّه برفقٍ على بطنها ويقول: هنا يسكن ولدي عايد.. ما أجمله مِنْ يوم.. تتخرج فيه حبيبتي، ويَثْبُتُ فيه وجود ابني، وفي ساعة واحدة..

 

  خرج د. فالح وياسمين، استأذنها أن يوصلها لبيت أهلها، لكنّها رفضت ذلك، متعذّرة بأنّه غريبٌ عنها، ولا يصحّ أنْ يقوم بإيصالها بسيارته، فربما يراها أحد الجيران معه، فيُساءُ لسمعتها.

أصرَّ د. فالح على أن يوصلها، وأخبرها بأنه سيتوقف لإنزالها على مسافة لا تبعد كثيراً عن بيتها، وأخيراً.. وافقت ياسمين، انطلقا، ولم يفوّت لحظة إلّا وحاول أن يستغلّها، ليعرف عنها معلومات خاصة بها وبأهلها، لم يُخْفِ إعجابه بها، طلب منها أنْ تزوره في عيادته في المستشفى القريب منْ بيتها، فهي من سكان الأشرفية التي يقع فيها المستشفى. أمّا هو، فقد كان يقيم في منطقة الشميساني، وصلوا قريبا منْ بيتها.. طلبت منه التوقف.. طلب منها أن تُشير له إلى بيت أهلها ففعلت.. ترجّلت وبدأت بالمسير، لكنّ د. فالح بقي واقفاً ينتظر وصولها البيت، رآها تفتح الباب وتدخل، فتأكد له مكان سكنها واطمأنّ عليها.

 

  مضى يومان على هذا اللقاء، وفي مساء اليوم الثاني كان د. فالح مناوباً في قسم الإسعاف والطوارئ، جاءته حالة لرجل مُسِنّ يعاني منْ ضيقِ التّنفس، بادر بإعطائه الأكسجين مع تبخيرة ليرتاح بها، بدأت حالة الرجل العجوز بالاستقرار والتحسُّن، عاد الدكتور فالح ليتأكد منْ حالة المريض، بُهِتَ حينما رأى ياسمين تجاور السرير، تُمسك بيد العجوز بيديها لتحتضنها بحنّيةٍ ورفق، نظر إليها الدكتور فالح مندهشاً، وسألها: ماذا تفعلين هنا يا آنسة؟

– ياسمين: مرحباً دكتور.. الوالد تعبان.

– د. فالح: ألف سلامة.. أظنّه الآن بحالة أفضل.

– ياسمين: سلَّمك الله يا دكتور.

أزاح الطبيب قناع الأكسجين عن وجه العجوز، وبدأ يكلّمه: مرحباً عمّي.

– العجوز: أهلاً يا ولدي

– د. فالح: كيف أنت الآن؟

– العجوز: الحمد لله.. أنا بحالة أفضل.

– د. فالح: هل تشعر بارتياح في نَفَسِك الآن؟.

– العجوز: الحمد لله.. تحسَّنتُ كثيراً.. وها هو تنفسي يعود طبيعياً.. أشكرك يا ولدي.

– د. فالح: العفو يا عمّي.. والآن سأكتب لك على بخّاخ وعلاج، كي تستعمله عند إحساسك بضيق تنفس وتعب.

– العجوز: بارك الله بك يا بُنيّ.

– د: فالح- العفو يا عمّي

 

  طلب الدكتور فالح من ياسمين أن تتْبعَه لاستلام الوصفة الطبّية، لم يكن هناك مجال للحديث، فالمرضى كُثْر، كتب لها رقم هاتفه في المنزل واستأذنها بلقائه ومشاركته غداءً بالمطعم، وطلب منها أن تتصل به عندما يسمح وقتها بذلك، وهو من سيَحضُر لاصطحابها للغداء معاً. حاولت أن تتمنّع في البداية، لكنًها ما لبثت أن وافقت، ربما حتى لا ينتبه لهما المراجعون، وربما أنها أحبت هذا اللقاء وتمنته.

 

  في الصباح، ذهبت ياسمين إلى رشيده، لتخبرها بما جرى بالأمس بينها وبين الدكتور فالح، ثم الذهاب لتقديم طلب إلى سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة  من أجل التوظيف. لاحظت ياسمين غياب والدة صالح وأخيه ماجد عن البيت، سألت رشيدة عنهما، أخبرتها بأنّهما قاما بالسّفر إلى أمريكا بدعوة من أخ زوجة والده وأنّ غيابهما سيطول.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!