بقلم: إبراهيم أمين مؤمن-مصر
استراح كاجيتا بعض الوقت، ولما استحضر في مخيلته قدوم جاك هب منتفضا ودعا فريقه للذهاب إلى أحد المعامل الملحقة بالمصادم.
قال لهم بغل المحاربين: «هيا إلى المعمل لنعدّ السلاسل التي سوف تأسر الجرافيتون.»
وفور خروجه رأى الخبراء في انتظاره، ويندس من بينهم المخبر المصري، فقال في نفسه: لاصقة بغراء لا تنفك عني حتى تنزع جلدي، ويلي من هؤلاء المتطفلين، دولهم تريد حكم العالم بقنابل الثقوب السوداء، شأنهم شأن رئيسي المتغطرس.
فلما دنا منهم قالوا له وهم يبتسمون ابتسامة الماكرين: «نرجو أن تكون بخير وعافية.»
نظر إليهم باستياء ولم يرد عليهم.
دلف بفريقه وهم من خلفه نحو باب أحد المعامل الملحقة بالمصادم.
فلما دخلوا شرع في إعداد التجربة.
برّد الرابيديوم (أحد العناصر الكيميائيّة) إلى درجة حرارة الصفر المطلق، وذلك بإرسال حزمة هائلة من جهاز ليزر يعمل بطاقة هائلة (سحب الطاقة من الذرات يجعلها في حالة تبريد).
وضع بعد ذلك ذرات الرابيديوم تحت المجهر وانصرف.
قالوا له: «ألا تكمل التجربة؟»
قال: «أريد أن أتبول، أتريدون أن تجروا معي هذه التجربة أيضا؟»
فانفجر ناكامورا من الضحك، نظروا إلى ناكامورا بامتعاض ولم ينبسوا بكلمة.
قال كاجيتا: «أريد أن أحتسي بعضا من القهوة، انظروا أنتم إلى الذرات.»
نظروا إليها من المجهر، فوجدوا كراسي موسيقية في تنسيق بديع.
فارتسم على وجوههم الدهشة والإعجاب، حتى قال ناكامورا: «إنّ الليزر جعلها في حالة عزف موسيقي يفوق الخيال.»
داهمهم كاجيتا بعد أن احتسى القهوة وهو يقول: «هل شاهدتم النوتة الموسيقية؟»
قالوا: «وطربت آذاننا بعزفها.»
قال: «أتدرون ما حدث؟»
قالوا: «نحب أن نسمع منك.»
دعا كاجيتا ناكامورا لإحضار مغناطيس ثنائي القطب.
فلما تناوله قال: «كلّ ذرة تعمل كمغناطيس له خاصية كوانتيميّة تسمى اللف المغزلى spin، وأنا الآن سأتحكم في ذاك اللف المغزلي من خلال هذا المغناطيس (ويشير إلى المغناطيس الذي بيده).»
بعد أن تحكم في اللف المغزلي بالمغناطيس دعاهم للنظر في المجهر. فرأوا دوامات إعصارية رهيبة داخل ذرات الرابيديوم، سرعان ما تشكلت نهايات هذه الدوامات الإعصارية على هيئة مغناطيس.
فتساءلوا عن هذه الهيئة الغريبة.
قال كاجيتا: «إنه محاكاة لمغناطيس وحيد القطب يا سادة.»
فصعقوا من وقع الكلمات وتمتموا بكلمات كاجيتا، قال أحدهم متمتما: «أتقصد مغناطيس أحادي القطب بالفعل؟»
نظر إليه ولم ينبس بكلمة.
وأجرى كاجيتا بعض التجارب ليحول عملية المحاكاة إلى حقيقة كائنة، وفي النهاية صنع كاجيتا لأول مرة في تاريخ البشرية مغناطيس أحادي القطب، ذاك الحلم الذي طال انتظاره من عقود طوال فائتة.
قال كاجيتا لهم: «هأنذا أمتلك مغناطيس تبلغ طاقته مليارات المليارات طاقة المغناطيس العادي.»
همس لنفسه: والآن أستطيع أن أمسك الجرافيتون اللعين.
ثم قال لهم مستدركا رغبة في صرف أنظارهم عن مراده: «هيا ليذهب كل واحد منكم إلى بلده عله يفيدكم (يقصد المغناطيس) في دفع المركبات الفضائية.»
وما لبث أن ضحك ضحكات سخرية وقال: «لكن لا تنسوا أن تخبروهم أن الحرب على الأرض وليست في الفضاء.»
***
كل الصحف العالمية والعربية ولاسيما المصرية منهم صورت جاك وهو خارج من المطار القريب من محافظة الوادي الجديد. وحاولوا بشتى الطرق أن يعرفوا عما إذا كان سيخوض بعض التجارب على المصادم FFC-2 بيد أنه رفض الإجابة واكتفى بقوله إنه جاء للاطمئنان على صديقه فهمان ابن الزعيم الوطني الراحل فطين المصري.
وفور تخلصه من الصحفيين، وكذلك الجمهور المحتشد من الشعب المصري -المحب لفهمان وأبيه- الذي حضر لملاقاته لأنه صديق حبيبهم فهمان همس قائلا: صبرا عليّ أيها الكاجيتا الملعون، اطمئن على صديقي أولا ثم أذهب إلى المصادم لأدق عنقك قبل أن تدق أعناقنا بقنابلك اللعينة.
***
اجتمع كاجيتا بفريقه سرا، قال لهم: «الآن سنمسك بالجرافيتون، ولن نفعل ذلك إلا بمفردنا، يجب علينا أن نسرع في إمساكه وصناعة قنابل الثقوب السوداء قبل أن يُقبض علينا.»
ذهل الفريق، قال أحدهم: «كيف يقبضون علينا؟ أنحن نقترف إثما؟»
قال كاجيتا: «طبعا أنتم لا تعرفون أن أحد الجواسيس المصرية مندس بينهم، وقد علمت ذلك لأني أعرف كل خبراء الفيزياء البارزين على مستوى العالم. فور أن نبتكر القنابل سيقبض علينا الرئيس مهدي فورا. كما أن هؤلاء الخبراء الذين بالخارج يريدون أن يعرفوا عما أبتكره من سلاح على المصادم ليخبروا دولهم فترجح كفتهم إذا ما قامت الحرب من جديد، فالهدوء الذي فرضته أمريكا سببه تحول نجم سحابة أورط إلى ثقب أسود.»
سكت برهة وانتفض جسده ثم هب قائلا: «هيا قبل أن يأتينا ذاك الجاك فيفسد علينا خطتنا هو ودولته اللعينة، مهلا أيتها الأمريكا؛ سأمحوك من خريطة العالم ثأرا لأجدادي، سأريكم أينا أشد بأسا وتنكيلا، قنبلتا هيروشيما وناجازاكي اللتان قتلتا أجدادي أم قنبلة الثقوب السوداء التي ستزيلكم عن الوجود كما أزالت دول أوروبا أجدادكم القدامى (يقصد كاجيتا الهنود الحمر “سكان أمريكا الأصليين” الذي أبيدوا عن آخرهم.»
***
فلما حضر في موضع التجارب وجد الخبراء منتظرين، نظر كاجيتا بعيدا فوجد وجوها غريبة ترمقهم، فقال في نفسه: هؤلاء رجال مخابرات لو علموا أني نجحت في ابتكار أي سلاح فلن أعود إلى بلدي.
علي الآن أن أتدارك الأمر، لابد أن أرسل لهم مخالبي ليفر كل هؤلاء الفئران حتى أستطيع أن أنجز مهمتي، فأرواح أجدادي ينتظروني على أحر من الجمر. أو أكشر عن أنيابي كالأسد حتى أراكم كالحمر المستنفرة تفر مذعورة.
ثم نظر إلى ناكامورا وأشار إليه برأسه، فبادله ناكامورا نفس الإشارة.
إشارتان تنم على تنفيذهما لخطة سبق أن اتفقا عليها من قبل.
قال كاجيتا في نفسه: لابد أن ينتهي كل شيء بسرعة.
ثم قال للجمع: «حان الآن يا سادة لحظة الجدّ، سوف نُخلق ثقبا أسود من خلال المغناطيس الأحادي، فإما أن نحيا معا، أو نموت معا.»
قالها وهو يسارقهم النظر، فوجدهم ينظرون إليه نظر المغشي عليه من الموت، وقلوبهم بلغت حناجرهم، وكل واحد منهم يحاول أن يزدرد ريقه من شدة الخوف الذي تملكهم جميعا.
قال كاجيتا: «تالله لقد وهبت نفسي للعلم، ولا بأس أن أموت من أجله، هكذا تعلمت، وهكذا أعلم تلاميذتي.»
وظل يتكلم حتى انصرفت عين مهدي عنه خوفا وهلعا، ثم تبعه بعض الخبراء، بينما ظل الباقون واقفين ما بين مصدق لما يقوله كاجيتا ويمنعه الحياء أو الخزي أو التضحية للوطن؛ ومكذب لما لديه من علم في أن الثقوب السوداء التي تتولد من التجارب مجهرية وتتلاشى فور تكونها.
وهم في غمرات الخوف تسلل ناكامورا من بين أظهرهم حتى وقف عند أجراس الخطر منتظرا إشارة من كاجيتا.
رمقه كاجيتا ثم قال للخبراء: «لقد حانت لحظة الصفر، لنبدأ التجربة التاريخية.»
وفي لحظة تصادم البروتونات وتكون ثقب أسود مجهري احتال عليهم ناكامورا واتبع معهم أسلوب الخديعة؛ إذ ضرب شعاع ليزر خارق في موضع تكون الثقوب السوداء المجهرية؛ ثم ضغط على أزرار أبواق الإنذار فلاذوا بالفرار بينما الأبواق تكاد تثقب الآذان.
ولم يكتف ناكامورا بهذا بل لحظة تكون الثقب الأسود قام بتشغيل صوت ثقب أسود من هاتفه وضخم الصوت لمائة مرة حتى كاد يثقب آذان من بالمكان، بل اهتزت بعض أعضائهم الداخلية.
هذا الجو المرعب كان له كلمة الفصل في فرار كل من بالمكان.
عاد ناكامورا من جديد.
أمسك كاجيتا بالمغانط أحادية ووضعها في الأماكن المخصصة لها ألا وهي الأماكن التي يمر عليها الجرافيتون للهروب إلى أحد الأكوان الأخرى، وقال وهو يكاد لا يأخذ نفسه من سرعة الحركة: «هيا ناكامورا، افصل شبكة حوسبة المصادم حتى لا تصل نتائج التجارب حول العالم، فيفتضح أمرنا، بسرعة. بسرعة.»
ثم نظر إلى واحد ممن يعملون معه، وقال: «أما أنت فضع برادة الحديد في موضع هروب الجرافيتونات ولا تنس أن تعزلها بعازل حتى لا تجذبها المغانط الأحادية.»
ولم تمر إلا بضع لحظات حتى أجرى كاجيتا البروتونات في أنابيب المصادم FFC-2 من أجل تصادم آخر.
وبالفعل، تفكّكتِ البروتونات وظلّتْ برادة الحديد كما هي. فصفق كاجيتا وتهلل وجهه، وصاح وكلتا يديه آخذة في الرفع والخفض رأسيا: «لقد نجحت، لقد نجحت، المغانظ قد أسرت الجرافيتونات، انظروا، برادة الحديد كما هي، برادة الحديد كما هي.»
وظل يردد الكلمة وهو يتراقص فرحا ونشوة.
تنويه: أيها القارئ: بقية خطوات صنع قنابل الثقوب السوداء في النص القادم إن شاء الله.