هي بعمر الياسمين المتسلق على جدران الحياة حديثًا، يرنو لعمر مزهر، يطفو على ضفافه الوارفة، ينثر عبقه في الأرجاء، ويحيا عمرًا يفسح له بأن يكون ما يحلم أن يكون.
خولة ابنة الثالثة عشرة سنة، قذفت بها تصاريف الحياة في إحدى مخيمات الشمال السوري، لتجد نفسها مع جدّها الطاعن في السن، تعيش تحت سقف خيمة مزّق أغلب قماشها كثرة الاستخدام، بعد أن هجر حيّهم كلّه، ونزحوا مع من نزح من الجيران والمعارف.
فمنذ أول الأحداث، لم يبْقَ سواها مع جدها من العائلة. فأبوها وأمّها استُشهدا مع من استشهد في مجزرة السوق، حين كانا يبيعان المكانس كما اعتادا بعد أن وقع برميل على سوق المدينة.
صناعة المكانس كانت مهنة جدّها وجدتها، وورثها أبوها، وعلّمها لأمّها، فكانت باب رزق يعيشون من وارداته.
في مرارة وقساوة الحياة في المخيمات، وجدت خولة نفسها مضطرة للعمل مع جدّها في هذا العمل، ليتساعدا على تكاليف الحياة القاسية، لم تحبّ يومًا هذه الصنعة، لكنها كانت تتقنها، وذلك لإصرار أمها على تعليمها إياها، فقد كانت تقول لها في كل مرُة كانت تتمنّع عن قبول تعلمها:
( يابنتي حتى لو لم تحتاجي لهذا العمل لا يضير أن تتعلميه)،
ولا تدري ماتخفي لك الأيام.
في السوق القريب من المخيم، وكل يوم اثنين، كانت تعلّق خولة ماتنسجه هي وجدها من مكانس طوال الأسبوع، في حبال تنصبها بين ساريتين من حديد، وتقف ساعاتٍ طويلةً تحت أشعة الشمس الحارقة، لتعود آخر النهار بثمن ماباعته من هذه المكانس المنسوجة بتعب الطفولة، وعرق البراءة، وخيوط الآمال.
تغير لون بشرة خولة الذي راح يبدو واضحا للجد، بسبب تعبها وتعرّضها لأشعة الشمس لساعات طويلة، كان يحزن قلب الجد، ويزيد شعوره بالعجز عن العمل، وتجنيب حفيدته الوحيدة، كل هذا العناء، وهي التي مازالت طفلةً من حقها التمتع بسنين طفولتها المتّشحة بشيخوخة جائرة.
برغم كل تغيير طرأ على خولة، إلا أنّها مازالت تشعّ نورا وجمالا باهرين، فهي تسير في أزقة النضوج، مع خشونة تفاصيل أيامها، لتتفتح أنوثة تغذّيها قوة شخصية تضفي عليها تميُّزًا وجاذبية.
كانت نائمة من شدة التعب، حين أيقظها صوت جدها العالي على غير عادته.
اقتربت من شُبّاك الخيمة، ونظرت إلى حيث كان يجلس الجد على الأرض وبقربه رجل أربعيني، أدهشها ماسمعت من حوار دار بينهما،
كان الرجل الغريب يحاول إقناع الجد بقبول تزويجها له، لكن الجد كان يرفض بشدة، ويقول محتدًا:
– لن أبيع حفيدتي حتى لو ملّكتني جميع ثروتك، وليس بيتًا وبستانًا فقط.
الرجل الغريب:
– ألا ترى بأنك تظلم حفيدتك بعنادك؟، أيعجبك حالها هذا؟، أترضى أن تقف بين بسطات الرجال في الأسواق تتعرض للمضايقة وللأذى؟!، أنت لا تعلم كم تعاني، وتبذل من مجهود، يارجل أشفق عليها، من حقها أن ترتاح، وتنعم بالعزِّ والدّلال، وهاهو يسوقه الله إليها، وأنت تمنعها عنه، وتحرمها السعادة والرفاهية التي تحلم بها كل فتاة.
الجد، وبعد أن تكسره هذه الكلمات وجعا على خولة، يقول:
– لكنها طفلة، مازالت صغيرة على الزواج، وتحمّل هذه المسؤولية، وأنا أخشى عليها من هذا الحمل الغريب:
– أتخشى عليها من الزواج والاستقرار، ولا تخشى عليها من وحوش قد تستغل صغر عمرها، ولا سند لها، وأنت رجل كبير ياحاج، ألم تفكر بمصيرها بعدك، بعد عمر طويل؟.
أطرق الجد، وتسمّرت عيناه في الأرض المزدحمة بأشكال الحصى وحبات التراب.
تنفس الصّعداء، ثم حدّق في الغريب وقال:
– أعطني بعض الوقت لأفكر في الأمر،
ابتسم الغريب ابتسامة خبيثة، كذئب أيقن من حصوله على فريستها التي خطّط لافتراسها والانقضاض عليها.
أنفاس الجد المثقلة بأحمال عظيمة من القهر والحيرة، كانت في تلك الليلة طاغية على جو الخيمة.
رفع الغطاء عن وجهه ونظر إليها، كانت تحدّق في سقف الخيمة، وقد جافاها النوم هي الأخرى، قال لها بصوته الحنون:
– خولة يابنتي، إنني خائف عليكِ من بعدي.
جلست في فراشها وقالت:
– مِمَّ ياجدي؟.
الجد:
– من كل شيء يابنتي، ستبقين وحيدة بعدي، والحياة لاترحم، وأنت مازلتِ صغيرةً، لم تخوضي معارك الحياة، ولم تختبري ماتخفيه من ملمّات وأهوال،
أدركت خولة أن الجد قد رضخ لطلب الغريب، وأنها لن تستطيع رفض أيَّ شيءٍ يكون سببا لراحته، وهو الذي مابخل عليها يوما بشيءِ، وكان دائمًا عائلتها وملاذها وأمانها من كل خوف.
بعد أيام قليلة اجتمع أهل المخيم لحضور عرس بائعة المكانس، التي كانت حديث كل من عرفها.
كشمس في صدر سماء صافية، في وقت الضحى، ألقت أشعتها البراقة المدهشة، كانت أجمل عروس زفّت من خيمة، لتنتقل إلى بيت زوجها في مدينة قريبة من المخيم.
عادت في اليوم التالي لتصطحب جدها للعيش معها في بيتها، كما اتفقت مع زوجها وجدها،
تفاجأت بأهل المخيم أمام الخيمة، نزلت مسرعة من السيارة، دخلت الخيمة، لتُصدم بجدها ممدّدا وسط الخيمة، وقد التفّ حوله الشيخ و بعض الرجال.
رمت نفسها بالقرب منه،
ثم راحت تتلمس وجهه البارد بيديها المرتعشتين، بعد أن أعلنت ارتقاء روحه منذ ساعات طويلة!!…