باندا فيكي/( قصتي مع الجاثوم ) بقلم: أحمد الهجامي

.

أنا خليل، أبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، هذا عامي الأول الثاني في الجامعة.
سأخبركم بقصتي جيداً.
تخصص الطب البشري لم يكن مناسباً لي، وكعادة الشباب في هذه الآونة كنتُ ضحية للاختيارات المتعددة.!
ماذا أقصد؟!
أقصد به أن الشباب أصبح يختار التخصص الفلاني لأن الجميع يختاره، ولأن الطب البشري كان تخصصاً يختاره الجميع ذهبت في هذا الاتجاه.
لم أستطع العبور إلى المستوى الثاني، سقطت في كثير من المواد فقررت إيقاف الدراسة والذهاب إلى جامعة أخرى، تعللت لعائلتي أن الجامعة ليست جيدة، والدكاترة فيها لا يجيدوا التعليم.

هذه المرة كانت الطريق مختلفة، انتقلت من شبه الريف حيث مكاني، ومنزلي وبيت عائلتي إلى المدينة، حيث المجهول، لا أحد لي هناك، لا عائلة، لا قريب، ولا صديق.

قمتُ بالتسجيل مرة أخرى بذات التخصص، لم أستطع تغييره، أفكار الجميع، توجهات الجميع لم يكن لدي المقدرة أن أختار تخصصاً آخر.

سيقول البعض الآن ألا تمتلك حلماً؟!
أليس لديك تخصصاً تريده؟!
نعم ! لدي ، لكن هل ينفعني تخصص العلوم السياسية؟!
أبي كان رجل سياسة محنك لكنه توفي قبل خمسة أعوام.
وما يدريكم ؟!
ربما بعد كل هذا سيكونُ خيراً.!
ربما أحبُّ هذا التخصص ويصبح بعد ذلك حلماً وواقعاً جميلاً..

وكالعادة بحثتُ عدة مرات عن غرفة للإيجار قريبة من الجامعة التي سأدرس فيها.
تجولت، ونظرت مرة ومرة ومرة أخرى لكل المنازل.
السعرُ باهض، أنا لن أمتلك كل هذا كل شهر، وأخي بالكاد يستطيع أن يساعدني بنصف المبلغ، والنصف الآخر أدفعه أنا إن وجدتُ عملاً بجانب الدراسة.

مَرَّ ذلك اليوم بصعوبة.
لم أجد غرفة للإيجار، والفنادق باهضة الثمن، وجيب بنطالي ليس فيه إلا نقود الفطور، وللأيام العشر القادمة.
لابد أن أجد غرفة وعملاً خلال هذه الأيام.

توجهت إلى “استراحة” كانت قريبة من الجامعة، كنت لاحظتها منذ البداية، هي أماكن يستطيع الشخص المكوث فيها لليلة واحدة، كان يناديها الجميع هناك بـ”لوكنده”.

جهزتُ مكاني بعد أن أخذتُ عشاءاً خفيفاً.
شعرتُ بالإرهاق، استلقيت على الأرض، كان الفراشُ خفيفاً، واللحاف ممزقاً بعض الشيء.

بينما كنتُ مغمضاً عيني وحقيبتي الصغيرة بجانبي بعد أن أقفلتها بقفل صغير، وربطتها على خصري خشية السرقة.

– شششششششش

كان صوتاً قريباً مني وكأن أحدهم يناديني.

– شششششششش يييييييه

فتحت عيني، رأيت مصدر الصوت.
كان رجلاً بالثلاثين من عمره، يشرب السيجارة بعمق.

– من وين أنت؟!

نهضتُ من مكاني وألقيت التحية عليه، وأخبرته عني ودار الحديث بيني وبينه مدة لا تتجاوز الساعة.

شعرتُ بالراحة قليلاً.
بعد أن نصحني بالذهاب إلى مكان ما أظنه سيكون قريباً، وليس بالبعيد عن الجامعة، أخبرني أنني سأجد مكاناً للإيجار هناك.

عدتُ مجدداً للنوم، أنتظر الصباح بشغف.
كانت التجربة جميلة، والمغامرة صعبة لكنها لن تكون دائمة.
الذهابُ بعيداً عن المنزل والأهل، أشبه بالذهاب إلى معركة ما وحيداً، يجبُ عليك القتال بكل ما أوتيت من قوة للبقاء على قيد الحياة.

….

في المساء…

تحديداً عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
شعرتُ وكأن حبلاً يلتف حول عنقي، والرياح الباردة تضرب وجهي، ولأنني نمت بالقرب من النافذة استيقظتُ فزعاً، أمسح وجهي بيدي، أخذتُ نَفساً عميقاً.
كنتُ متعرقاً بالرغم من البرد الشديد.

– لحظة… أين ذلك الرجل؟!

قلتها بعد أن لاحظتُ أنني أمكث بجانب رجلين طاعنين في السن دون ذلك الرجل الذي تحدثتُ معه لساعتين.
حتى رائحة السيجارة لم تعد موجودة.!

– يبدو أنه خرج، أو ذهب إلى الحمام.!

عدتُ مجدداً إلى النوم بعد أن تفحصت أشيائي جيداً، حقيبتي والقفل الذي عليه.
تحدثُ قصصاً كهذه، أن تُسرَقَ حقيبتك وأنت تغطُّ في نوم عميق.

في الصباح…

استيقظتُ عند الساعة السادسة والنصف صباحاً.
كان الجو جميلاً بعد أن داعبت أمطار الفجر الخفيفة الشوارع، والمنازل وأشجار الرصيف.

ذهبتُ إلى المكان الذي أخبرني به ذلك الرجل.
بالفعل وجدتُ الكثير من البيوت التي يبدو عليها القِدَمْ.

– يبدو أنه شارعٌ قديم.

بدأت أسأل الكثير عن مكان للإيجار هنا لكنهم تأسفوا لعدم وجود مكان فارغ لي.
شعرتُ باليأس، تحطمت تماماً.
ماذا أفعل؟!
هل أعود مجدداً إلى تلك اللوكنده؟
والتفكير مطولاً بأشيائي ليلاً كي لا تُسرَقْ؟!

حينما كنتُ على مقربة للخروج من الشارع في الجهة المقابلة بعد أن أيقنتُ أن القرار الذي اتخذته بالسفر كان سخيفاً.

– شششششششش ييييييه

إنه النداء نفسه الذي سمعته الليلة الماضية.
نظرتُ بوجههي ، إنه رجل حداد طاعنٌ في السن.
أشار إلي بالمجيئ إليه.

– أهلاً يا حاج .

شعرتُ بالفرحة حينها .
لن تصدقوا ما حدث.!
حين أصبحت أشعر باليأس الشديد، كان هذا الرجل مفتاحاً آخر للحياة.
نعم وجدتُ أخيراً منزلاً للإيجار.

ذهبنا معاً، نظرتُ إلى شقتي الجديدة والتي كانت بسعر مقبول.
اندهشتُ بالسعر ، كنت أظنه سيكون باهضاً.

تعلل الرجل أن أهل البيت سافروا خارج البلد ولم يعد أحد يستأجر المكان لأنه كبير بعض الشيء.
غرفتان، ومطبخ، وحمام.

اتفقنا أخيراً.
تسلمتُ مفتاح الشقة.
انتقلت في نهاية المطاف، وبدأت بترتيب منزلي الجديد منتظراً عاماً جديداً.

حين أغلقتُ باب شقتي بعد التنظيف، كنتُ ذاهباً للبحث عن عمل.
لاحظت أن هناك شقة في الطابق الأعلى.
لا أعلم، غرفة أم شقة.
لكنها تبدو رثة من منظرها الخارجي ومخيفة جداً.

هذه الغرفة ستكون محوراً في قصتي مع الباندا فيكي.
ستعلمون من هو؟!

على الطريق….

كان الشارع شبه فارغ من الناس، يبدو أنه لا يدخله إلا بضع من الأشخاص المهتمين بالأشياء القديمة.

المحلات هنا، بين منجرة، وحدادة، وبعض المحلات التي تصدر الأواني المنزلية بالتجزئة والجُمْلة.

بضعة مترات من المنزل رجلٌ يجلس بجانب محله القديم، ذو تجاعيد كثيفة، ربما يبلغ من العمر سبعين عاماً ينظر للفراغ الممتد من بوابة الشارع وحتى نهايته.
توقف عليّ، ظللتُ أسير نحوه وهو لا زال ينظر إلي، وحين اقتربت منه.

– كيف حالك ي ولدي؟!

هكذا أخبرني بصوت مبحوح، ضعيف.

* بخير يا حاج

– أنت جديد على الحارة؟!

* أيوه يا جد أنا طالب جامعي وشقتي هناك في ذلك البيت ذو الباب الأزرق.

تغيرت نظراته نحوي وكأنه سمع خبراً مفجعاً.

– وين ساكن بالدور الأول أو الثاني؟!

* في الدور الأول .

– هااااااااا

لم أفهم سر هذا السؤال، لكنني لوهلة تذكرت تلك الشقة الغريبة في الدور الثاني، مخيف مخيف جداً.

– والآن لوين بتسير؟!

* والله يا حاج أنا أدور عمل لي عشان أقدر أساعد نفسي بالرسوم الدراسية وحاجاتي اليومية.

– أيش رأيك تشتغل عندي؟!
أنا معي ولد لكن سافر قبل أسبوع خارج البلاد.
وأنا لوحدي هنا أبيع وأشتري حاجات قديمة.
ومنها أعطيك أجرتك اليومية، وتبدأ تشتغل بعد ما ترجع من دراستك ترتاح وتبدأ العصرية عندي للساعة السابعة مساء؟!

كدت أقفز فرحاً تلك اللحظة، قبلت عرض الرجل، ووعدته أني سأكون نِعْمَ العامل، وسأساعده بكل جهدي.

الساعة السابعة مساء…

قضيت أول أيام عملي ، وبدأت بإغلاق المحل والعودة إلى شقتي.
لم يكن الشغل متاحاً، لم يأتِ أحد، لكنني حصلتُ على أجرتي اليومية.

دخلت غرفتي وأغلقتها، مددتُ جسمي على سريري الصغير، وبدأت أشعر بالإرهاق قليلاً.
لم تبدأ الدراسة بعد، بعد أسبوع سيكون أول أيامي المتعبة، لكنني سأتحمل.

الساعة العاشرة مساء وأصوات الكلاب المزعجة تطن في أذني، أحاول ترتيب غرفتي من جديد والتعود عليها.
حاولت إصلاح طاولة قديمة كانت مركونة في زاوية الغرفة.

فجأة توقفت أصوات الكلاب.
اندهشت كيف للأصوات أن تتوقف بالوقت والرتم ذاته؟!

ززززز….زززززززز

كانت أصوات الدرج العلوية المتجهة إلى الشقة العلوية.

– هل يعيش أحدهم هناك؟!

تسائلت، لكنني تذكرت أنها فارغة.
هكذا قال صاحب المنزل.

توقف الصوت فجأة وكأن أحدهم وصل إلى الشقة.
دقائق وعاد الصوت من جديد.
يبدو أنه ينزل من الغرفة.

ازداد الصوت كثيراً، بشكل مخيف كان بجانب الصوت، صوتاً يشبه “الخرخشة” ، كأن أحدهم يمسك سكينة ويجُرُّها على الجدار.

اختفى الصوت تماماً وبعد ربع ساعة تقريباً عادت الكلاب تنبح بشكل هستيري، لم تكن هناك نافذة أستطيع النظر إلى الشارع الأمامي، فقط نافذة واحدة في غرفتي أستطيع النظر إلى خلف المنزل.

بعد أسبوعين…

بعد عودتي من العمل كل يوم كان ذلك الصوت الذي يأتي عند الساعة العاشرة مساءاً لا يغيبُ يوماً وتزامناً مع صوت الكلاب وبالطريقة ذاتها، تبدأ الكلاب بالنباح، ثم تتوقف فجأة، يليه صوتُ الأقدام الذاهبة نحو الشقة العليا…

لم أعر الأمر أي اهتمام، كنتُ أصبُّ تركيزي على المراجع التي أدرسها، وأحاول أن أستفيد أكثر.

في اليوم الثاني صباحاً وأثناء خروجي من الغرفة كان صاحب المنزل يقف أمام الباب الخارجي وكأنه ينتظر أحدهم نظر إليّ مبتسماً.

– كيفك يا خليل؟!

كان سؤالاً يحتويني كثيراً.
أفتقدُ السؤال هذا كثيراً، عائلتي البعيدة بالكاد تسألني عن أحوالي حين تستطيع التواصل معي.

الحرب، والظروف السيئة التي نمر بها أفقدتنا الأشياء الروتينية التي كنا نسمعها كل صباح.

ابتسمت له وحمدتُ الله كثيراً.
ثم تعللتُ أن أصوات الكلاب ليلاً تزعجني قليلاً.

نظر إليَّ مستغرباً.

– كلاب؟!!!

كانت بنبرة الدهشة، أو الاستغراب ربما.

* أي والله يا عمنا الكلاب الساعة عشر بالذات تزعجنا ازعاج.

– والله يا ولدي أنا ممكن مع النوم ما عد أسمع شيء.

اندهشت كثيراً كيف لرجل أن يغط في نومٍ عميق دون أن تزعجه تلك الأصوات، خصوصاً أن غرفته منفصلة عن المنزل ولا يمكن لأحد أن ينام دون أن يسمع النباح المستمر، إلم يكن اليوم فغداً.

وقبل أن أسأله عن إذا كان أحدهم يسكنُ في الدور الأعلى، طرأ عملاً له واستأذنني بالذهاب وفكرتُ بسؤاله في وقت لاحق.

بعد عودتي من الجامعة عند الظهيرة كنتُ أشعرُ بالإرهاق كثيراً، الشمس الحارقة كانت تتفننُ في تعذيبي، لكني كنتُ أستطيع النوم براحة كبيرة دون صوت النباح حتى فترة العصرية.

أخرجُ للعمل بجسد نشيط.
أثناء الذهاب إلى عملي تفاجئتُ أن صاحب العمل قد سبقني هذه المرة وقام بفتح المحل.

* أهلاً يا حاج ماشاء الله اليوم سبقتنا؟!

ضحك بشكل جميل جداً وأشار لساعته: لقد تأخرت ربع ساعة.

اعتذرتُ له متعللاً أنني نمتُ بشكل مرتاح هذه المرة بعيداً عن أصوات الكلاب الليلية.

– كلاب؟!

بنبرة مستغربة وكأنه يسألني.

– أيش من كلاب يا ولدي؟!

* الكلاب يا حاج الساعة عشرة تنبح بشكل غريب.

– والله يا ولدي شكله يتهيأ لك.
أنا أسهر للساعة اثناعش ليل(الثانية عشر ليلاً) ولا أسمع صوت كلب، أرتب حاجاتي القديمة كل يوم، وأشوف لو في شيء ناقص.

كان حديثه بالنسبة لي صدمة كبيرة، والكلاب الذي أسمعها طيلة الأسبوعين الماضيين؟!

* طيب يا حاج ممكن أسألك سؤال ثاني؟!

– ايش هو ؟!

* هل في حد يعيش بالشقة اللي فوقي؟!
أنا أسمع كل يوم الساعة عشرة واحد يطلع من الدرج بعد صوت الكلاب.

– مش عارف هل صالح (يقصد صاحب المنزل ) هل أجر الغرفة ذي لحد؟!

أخذتُ نفساً عميقاً بعد حديثي وقلت في نفسي : أسأل صاحب المنزل وآخذ جوابي.

إذا كان الحاج لا يسمع أصوات الكلاب، فهل ما أسمعه مجرد أوهام؟!
إذا كانت أوهام، فماذا عن صوت الأقدام القريبة من أذني؟!

الشعور المخيف الذي شعرتُ به تلك اللحظة لا أستطع وصفه، لأول مرة أشعرُ وكأن هناك شيئاً مخيفاً يدور في ذلك المنزل خصوصاً تلك الشقة العليا.

قررتُ أن أخرج هذه المرة إلى جانب الباب حين أسمع أصوات الكلاب، أريدُ أن أزيح عني هذا الشعور المخيف، على الأقل أرتاح فعلاً أن هناك نباحاً أسمعه.

في المساء..

كنتُ أنتظرُ الساعة العاشرة بفارغ الصبر؛ أريد معرفة حقيقة ذلك النباح المستمر كل ليلة، أو ربما أعرف من سيصعد نحو الشقة العليا.

كان الوقت طويلاً جداً.
غريب هذه الليالي عادة ما تكون قصيرة، لماذا هذا المساء أصبح طويلاً؟!

جائت اللحظة، وعقارب الساعة في يدي تُشيرُ إلى العاشرة.
فجأة بدأت الأصوات تعلو، هممتُ بالنهوض شعرتُ وكأن أحدهم يشدني إلى الخلف.
كان الشعورُ غريباً، وكأن قدماي تجمدت ولم أعد بمقدوري على الحركة.
حاولت تخطي ذلك الشعور حين استطعت إمساك قبضة باب الغرفة.
بدأت بالنزول رويداً رويداً، كانت الأصواتُ عالية جداً، وحين نظرتُ إلى الشارع وحتى نهايته كان فارغاً تماماً دون وجود الكلاب، أصواتها فقط ظاهرة.

قبل أن أعود إلى الغرفة رأيت أحدهم في نهاية الشارع يسير بطريقة غريبة جداً ممسكاً في يده اليمنى شيئاً يشبه “السِّكِّينة”..

خفتُ كثيراً، حاولت العودة إلى الوراء، وحين بدأت بالاقتراب نحو باب الغرفة نظرتُ نظرتي الأخيرة إلى الرجل، لا أستطع تصديق ما رأيته، ولا أعلم أن الجميع سيصدق هذا.

كان يذبحُ قطة سوداء وصوت (مواها) يرتفع بشكل مخيف.

دخلتُ إلى الغرفة وأنا أرتجفُ من شدة الخوف، أغلقتُ الباب بإحكام وحاولت التدثر محاولاً الهروب من ذلك المنظر.

عادت أصواتُ الكلاب من جديد للحظات ثم انقطعت، وعادت صوت الأقدام الصاعدة نحو الغرفة العليا.

فجأة تعود الأصوات وكأن الأقدام تنزلُ من جديد، نظرتُ إلى مقبض الباب، ثم إلى أسفل الباب، وكأن أحدهم يقف أمامه.

تحرك مقبض الباب، بدأت بالصراخ، أتعوذ بالله من الشيطان، حاولت تغطية وجهي باللحاف محاولاً عدم النظر للباب.
توقف الصوت ، لم يعد هناك شيء.
حاولت الاسترخاء والعودة إلى النوم.

في منتصف الليل شعرتُ بالضيق كثيراً، كأن أحدهم ينام بجانبي ويحاول احتضاني.
هل شعرتم يوماً وكأن أحدهم يقترب من رقبتك بوجهه وينفخ فيه؟!
كان هذا ما شعرتُ به، كلما حاولت الالتفاف للخلف كنتُ أشعرُ وكأني مقيد تماماً، ويداً تمسكني بإحكام على ظهري، وفمٌ ينفخ ببطئ على رقبتي.

لا أدري كيف استيقظتُ الصباح؟!
استيقظت.
حاولت استيعاب الأمر.
الأمر الغريب أن باب الغرفة لم يكن مقفلاً بالمفتاح.
أتذكر أني أغلقته.!

رتبتُ نفسي، حاولت الخروجُ مبكراً.
نظرتُ للباب الخارجي المكان الذي رأيت فيه المشهد الدموي الليلة الماضية.
لا شيء هنا، المكان فارغ تماماً.
لا يمكن لكل ذلك المشهد أن تكون أوهاماً مني.؟!
هل بدأت برؤية أشياءاً وهمية؟!

عشتُ كل يوم لمدة أسبوعينهذا الشعور، أشعرُ وكأن أحدهم يعيشُ معي في الغرفة نفسها، ينام بجانبني يمنعني من النوم، يشد يديه على جسدي ويشعرني بالإختناق، بدأت أشعر بالتعب والإرهاق وعدم مقدرتي بمذاكرة الدروس.

وكما هو الحال، فمن المحال أن يدوم الحال.
كان لابد لهذه الأيام

أثناء الظُهيرة…

عدتُ من الجامعة والشمس الحارقة تضربُ رأسي بقوة، بدأت أشعرُ بالصداع الشديد.
مررتُ على صيدلية كانت بالقرب من بداية الشارع المؤدي إلى شقتي.

سألت الصيدلي ذلك الوقت لكن بشكل آخر وكأنني أتحدثُ عن صديق لي.

* يا دكتور ، واحد من أصحابي يكلمنا انه يحس بالليل بضيق ووقت النوم كأنه في حد يضغط على رأسه.

نظر لي الصيدلي الشاب، ثم أرسل ابتسامة تتبعها ضحكة:

– شكله صاحبك هذا عنده الجاثوم!!

استغربت ، الجاثوم؟ ما هذا الشيء؟!

* ايش هو الجاثوم لو سمحت؟!

– هذا شعور نفسي ، يحس الواحد وكأنه شخص يجلس جنبه أو يضغط على صدره، أو يسمع أصوات قريبة منه وقت النوم.!

بدأتُ أشعرُ بالارتياح قليلاً.

* طيب أيش أسبابه؟!

– أسبابه قد تكون يمكن توترات ضغوطات نفسية، قلة بالنوم.

أخذت أقراص المهدئ لصداعي وشكرت الصيدلي، ثم هممتُ بالخروج.

بدأتُ بالاستيعاب مما يحدثُ لي.!
هل يمكن أن يكونَ كل هذا مجرد أوهام وقلق.
تخيلاتْ مثلاً؟!
ربما….

دخلت غرفتي الصغيرة، فرشتُ سفرة الطعام وبدأت بأكل الطعام ثم حاولت أخذ قيلولة قليلة.

شعرتُ بالراحة بشكل كبير كما لو أني أنامُ لأول مرة.
تذكرت ذلك الشعورُ قليلاً.
شعور الأمس، أثناء النوم، حينما استيقظتُ ليلاً، حاولتُ النهوض لكن دون جدوى، كما لو أني أعيش في أحلام اليقظة، من المستحيل تحريك يدي ذلك الوقت، أطرافي كذلك، الشعور بذلك الاختناق.

حاولت نسيان ذلك، خصوصاً الرجل ذو السكين.

نهضتُ عصراً بعد أن شعرت بالراحة.
ذهبتُ لمكان عملي ووجدتُ صاحب العمل قد سبقني بفتح باب المحل.

ابتسم نحوي:

– تأخرت اليوم كمان يا ولد.

حاولت تبرير الأمر من جديد:

* والله يا حاج أنا الليلتين ذي أحس بشعور غريب لذلك ما أقدر أنام الليل سوا.

نظر لي مستغرباً:

– خير يا ولدي أيش فيك تعبان؟!

* تذكر لما كلمتك عن أصوات الكلاب، ولو في أحد يعيش بالشقة اللي فوق غرفتي؟!

– أيوه أيش فيبها؟!

شرحتُ له كل ما حصل الليلة الماضية؟!

ثم حاول تهدأتي وتحدث معي بمصطلح غريب بعض الشيء.

– يمكن يا ولدي عندك باندا فيكي؟!

* باندا فيكي؟! أيش هذا ؟!

– الجاثوم، والا قل شلل النوم.
أكيد بسبب انك تروح من الجامعة مرهق، وتوتر المذاكرة وتعب العمل يخليك تحس بكل هذا؟!

* تقول كذا يا حاج كله هذا تخيلات؟!

– أيوه أيش رأيك اليوم تنام عندي وبتشوف الفرق.؟!

بدأت بالتفكير ثم قلت لن أخسرَ شيء، وافقت في النهاية.

قضيتُ تلك الليلة أذاكر بعض الدروس بعد أن تناولت لأول مرة طعاماً منزلياً هنا في هذه المدينة، صاحب العمل طباخ ماهر… كان في الأسفل يحاول ترتيب بعض الحاجات القديمة.

جائت الساعة العاشرة ولم أسمع أي صوت من تلك الأصوات.
إضاءة الغرفة كانت جميلة جداً، ليست كإضاءة غرفتي الضئيلة.

أثناء النوم، كنت متوتراً بعض الشيء وحين جاء صاحب العمل إلى الغرفة هرعت خائفاً، حاول تهدأتي وأعطاني حليباً دافئاً.

نمتُ هذه الليلة كالملك.
لا شيء أزعجني، لا صوت الكلاب الضالة، ولا ذلك الشعور الغريب، هذا الذي يسموه بالباندا فيكي أو الجاثوم، أياً كان ….

في الصباح…

قررتُ أن أغير إضاءة الغرفة في منزلي، وأحاول ترتيب نفسي جيداً.
حين حاولتْ أن أنظر لمحفظة النقود تفاجئت ببعض المال الموجود، وبجانبها ورقة مكتوب عليها.

( روح واشتري لك بعض الحاجات اللي بتلزمك لغرفتك، اضاءة وغيرها… واعتبر هذي الفلوس راتب الشهر.).

شعرتُ وكأني محظوظ جداً بوجود رجل هكذا أعمل لديه.

تغيرت غرفتي تماماً، كذلك نفسيتي.
لم أعد أشعر بذلك الشعور .

حتى الغرفة العليا لم تكن كما توقعتها مخيفة، لقد كانت مخزناً لأحد مالكي المحلات المجاورة.

مر العام مسرعاً.
شعرتُ بالفرحة حين رأيت درجة النجاح.
لقد نجحت أخيراً، انتقلت للمستوى الثاني.

أثناء عودتي من الجامعة ذات مرة.
سقطت قذيفة بالقرب مني، فتحتُ عيني وأنا في المستشفى والكل يسعفني وبجانبي صاحب العمل، أغمضتُ عيني وفتحتها مرة أخرى وبجانبي أخي وأبي وصاحب العمل

علمتُ أخيراً أني فقدتُ أصابع قدمي بسبب القذيفة.

كان الجميع حولي وكأنهم يخفون شيئاً آخر عني!
جاء الطبيب إليَّ بعد أن حاولت تحريك جسدي دون جدوى.

أصبتُ بالشلل، هذه المرة ليس شلل النوم.
الشلل الذي سيقعدني طيلة الحياة على كرسي متحرك.

هذه الحرب لم تبقِ لنا شيء.
عشتُ حياتي متألماً مستعيناً بالآخرين.
شجعني أبي وزملائي في الدراسة وصاحب العمل على مواصلة الدراسة.
كان الجميع مهتماً بي.

وصلتُ أخيراً إلى منصة التخرج بعد أن استطعت الحصول على المركز الأول في دفعتي.
هذا التخصص الذي سقتُ فيه مرة، ونهضتُ منه ناجحاً.

السقوط ليس مؤلماً في كل مرة.
هناك سقوطٌ يجعلكَ عالياً، وهناك نجاح يأتي بعد التعثر، وهناك ورود تتوردُ بعد سقوط بهي للمطر.

قصتي ليست للحكاية فقط، إنما هي محطة للحياة.
ثقوا أن الحروب تنهزمُ حين نحاربها بالإرادة والتسلح بالعلم.

الجاثوم كان بداية للطريق، كان لابد من هزيمته.
صحيح لم أستطع هزيمة تلك القذيفة التي أخذت مني حرية الحركة، لكنها أبداً ولن تأخذ مني حرية النجاح.

كونوا بخير أصدقائي.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!