بلال، وعلى غير عادته بقي في فراشه بعد أن استيقظ، من نومه اليوم، لم يذهب لفراش أم علي كما كان يفعل كل صباح. بل اكتفى بالتحديق فيها بعينيه السوداوين.
اقتربت منه، جلست بقربه:
– بلال، مابدك ياولدي؟!!..
– ماما أميرة، لقد رأيت ماما أميرة، ذهبت لعندها.
– ماما أميرة؟!..إلى أين ذهبت لعندها؟.
– إلى الجنة يا أمي، لكنها كانت حزينة.
– ولماذا كانت حزينة؟.
– لا أعلم، لكنها كانت تبكي بحرقة.
– وماذا قالت لك؟.
– قالت أنها تحبني.
– فقلت لها، وأنا أحبك أيضاً….
أحزن منامُ بلال أمَّ علي كثيراً، وفتحت كلماته أبواب الأحزان التي طالما حاولت إغلاقها، ومتاعب الحياة بشكل طبيعي بعد استهشاد أميرة.
كان اليوم الخامس عشر من شهر رمضان، بعد عامين من النزوح، حين تمت ولادة أميرة لبلال في مشفى ( أطمة ).
أمضت أم علي الليل كله ساهرة مع ( سلفتها ) أميرة في المشفى، فهما صديقتان حميمتان، ولم تفترقا أبدا إلا في هذا النزوح المرير.
بعد ليلة متعبة ضجت بصراخ الولادات وأنين المتألمات. أطلق بلال صرخة الحياة الأولى، وتنفس أول نفس له في بلاد عجّت فيها روائح الموت والظلم والجور.
تعلقت أم علي ببلال كما لو أنه ابنها، فقد خرج من روحها لهذه الدنيا.
بعد أربعة أيام من ولادة أميرة، قرر الأب العودة للضيعة، فما عاد بمقدوره العيش في هذه الخيام، ولم تجد توسلات أم علي والجميع بالتراجع عن قراره.
فالوضع في الضيعة مازال سيئاً، والقصف لا يتوقف ليلاً، نهارا. وأميرة لاتزال نفساء، ولم ترتَحْ من آلام الولادة بعد.
قبل أن يخرج الأب من البيت، أوقفته أميرة:
– متى ستعود؟.
– الظهر إن شاء الله.
اشترِ لنا كبدة دجاج ( سودة )، فأنا والأولاد نشتهي أكلها اليوم، لقد طلب مني الأولاد البارحة أن أطبخها لهم.
صار الوقت بعد الظهر ولم يعُد الأب، وقد بدأ الجوع يغرس براثنه بمعدهم الصغيرة، والأم تحاول أن تجعلهم يصبروا حتى يأتي الأب بالطعام المنشود.
ولأنه تأخر جداً، ولم يقدر الأطفال على احتمال الجوع أكثر، صنعت لهم طعاماً مما وجد في البيت، غلت إبريق شاي، وقلت البيض، والزيت والزعتر كان لذيذا جدا بعد جوع مؤلم.
طلب الأولاد من أمهم أن تأكل معهم فقالت:
– كلوا أنتم، أنا سأنتظر أباكم.
كان الظلام قد حلّ، حين عاد الأب، والجوع فعل مافعل بالأم.
– لماذا تأخرت؟!…لقد قلقنا عليك.
– نعم أعرف أنني تأخرت، لكن كان رغما عني، فسيارة الخضرة تأخرت، ويجب أن ننتظرها لنفرغ حمولتها.
– ولِمَ لم تحضرْ لنا الكبدة؟.
– قلت لك، تأخرت في العمل، ونسيت أمرها كله.
قاطع حديثهما صوت أجهزة الاتصال ( القبضة ) طائرة في المجال الجوي، احذروا… ادخلوا إلى الأقبية.
خرجوا جميعا من البيت متجهين لقبو بيت العم، حمل الأب بلالاً ، أمسكت أميرة بيد بشار وباسم، وركضوا مرعوبين.
وقع الصاروخ بباب البيت، وقطع طريقهم.
تناثرت أشلاء الأطفال، مزقت الشظايا أجسادهم الطرية.
حمى الأب بلالاً بجسده، فتلقى هو الشظايا التي خلفت في جسده بعض الجروح والحروق.
أما أميرة، فقد اخترقت صدرها شظية كبيرة( قطعة حديد)، ففارقت الحياة مع ابنيها بشار وباسم.
لم تقبل أم علي أن تترك بلالاً يعيش عند أحد غيرها، أصرت أن تأخذه وتعمل على تربيته مع أولادها، فبلال ابن الغالية أميرة، وابنها الذي لم تلده، ولن تسمح لأحد أن يأخذ مكان أميرة في قلبه غيرها.
رغم زواج الأب من امرأة ثانية، وطلبه أن يعيش بلال مع أبيه وإخوته من زوجة أبيه، إلا أن طلبه رفض بدموع أم علي وتوسلها بأن يبقى في حضنها ومع أولاد عمه، فهي لن تستطيع العيش بدونه بعد تربيتها له أربع سنوات وأكثر.