دَوَّتْ في المناقير المناقير، وحوّمت في الأسراب جرادٌ، واتسعت في دوامة الهباء أسرابُ الهباء، قلتُ: آتي كأنني أدعو، وأمشي كأنني أؤذن. طلقةٌ واحدةٌ ـ كانت ـ تكفي لعتق كل هذه السوائم، وتقويض نسانس هذا الفراغ، وليكن! إنني متعبٌ وهذا أول الجدران الأربعة في قفطان زنزانتي، هذا أول صوتٍ على حنجرة هذا اليبابْ.
للنهود مصابيحٌ، وللفوانيس حلماتٌ، وللزلازل ـ أيضاً ـ أفواه.
أمُّنا الأرضُ، ونحنُ الجنادب الناتئةُ على جلدها المتآكل (بزحاف أجسادنا العصماء) كفضلات البرسيم، طلقةٌ أو دهشةٌ تكفي لأن أضرم أمتعتي في طبول نياشيني، وأمشي مفوّهاً، كحلزونٍ، في صَدَفِة هذا النتوء. أطلقوا الدهشة من أغصاني كي أرى أسرابي على طوفان هذا الجراد، وآتي كجندب: في فمه قشةٌ، وفي قمصانه دهاليزٌ، آتي: مقبضاً في يدي حجراً، وفي طواحيني أبّهةً، ومصاطبُ للعراكْ، وأوسمةٌ (سأسميها زعانفاً) وفضاءٌ للسباقْ.
آتي: سنبلةً للزفاف، أو شارةً للهلاكْ.
مُرتجلاً كضوضـاء النواقيس. لي مواقيتي.. وأدعيتي. من رآني أدفُّ الأرض كجمجةٍ في مصاحف أقواسي، قال:
هذه قُبلةٌ وأشار إلى يدي وهي تدفن في ظلمة النواقيس (أعني طرقاتها بدونما طائل)، وناولني وردةً، ومن لم يرني قال: تلك أحصنةٌ أخطأتها حلباتُ السباق، وأشار بكلتا يديه إلى حنجرتي، وناولني جثةً (يسميها مرثاةً).
قلتُ: أسطعُ من وردةٍ، وأسير على جثةٍ، وأجيء أدحرج بينهما قامة المومياء. وأشرتُ إلى القوم وهم يغوطون في أصواتهم، ويهيلون على أفراحي الولائم والسباب.
الكفنُ مطبقٌ، والحَنوطُ معطبٌ، وأنا أتولاهما مُناصفةً فأيهما في فمي القنيصة وأيهما في شفاهي الشراكْ؟
طلقةٌ دوّتْ فأعلتْ مئذنة، دهشةٌ أسرتْ ففاحتْ سوسنة، قلتُ: هذي، إذن، شفتاي، وأشرت إلى قوسين في رفّيهما قُبلةٌ ومرثاةٌ، وأشرتُ إلى مابينهما. من رآني ومن لم يرني وأنا أنفخ في جثمان الريح بالون أخشابي، وأسير أفصّد فيها مزاميري، قال: ذلك هو أنا، وأشار إلى نفسه وأمعن في الحياء.
حجرٌ، يأخذني من صهوة الحلم على مهلٍ، ويكسوني بمنقارٍ، وآتي راجلاً. ليس في الجفن مناطيدٌ فأطويها على عنقي، إذا دوّتْ بأجفاني نفايا روث تلك المزبلة.
ليس للأكفان بوابٌ، إذا جئتُ، فأحشو صوته (بالبزر) أو أهديه إكليل صراخْ.
كل ما يصلحُ للدفنِ فمدفونٌ ـ بحذقٍ ـ خلفَ صمتٍ أو بكاءْ. تائهٌ والتيهُ في كفي طبولٌ وحجارْ. تائهٌ والتيه فرجالٌ بومض الجلنارْ.
قلتُ: أطلي سحبَ السرو بصفصاف الهجاءْ.
أي ألواني بغمض الطيف أحلى؟ سرُر النوم بأقفالٍ وحلمٍ؟ أم شجار الروح بالحلم اكتئاباً. وانفجار الرأس ـ لكن ـ مثل بالونٍ على طعم الكلام؟
* * *
عنكبوتُ الرمل يبني فوق أقفاص توابيتي سفوحاً.. وحمامْ. وجناناً مثل وخز الشك، ملساءً بلا صوت ولا اسمٍ، قلتُ: قد جادَت عناقيدي وأهدتْ سنبلة. سوف ألقي طمي )أقليدس( في وحلي، وأطري بدم المقتول لطفَ القتلة. سوف ألغي كل شكل يأخذ الصمتُ به حجماً، ومقياساً لمرسوم بمرثاةٍ، وألغي كل شكل ليس دهليزاً ولاخبتاً، وأطفي صخب )النيروز( في صوتي، وأحفو مزماري، إذا سار بإيقاعٍ، وآتي في حشودي مثلَ صبّار على قبضةِ زلزال.
وأنهي الأسئلة.
*
صفاً صفاً تتسق قبابُ الأعلى في الأعلى، وركناً ركناً ينهدُّ بساط القاع على القاعْ، كل شيء كما كان في بدئه؛ قبل أن يستوي الشاعر في ملكوت القصيدة، أو تبزغُ الأرض من سموات الخطى، وليكن: كلِّ تسبيحة في فمي مَلَكاَ، وكلُّ قافلة في هبوبي غبارْ. وليكن: كلُّ مايصلح للغناء يصلح للبكاءْ