ذكريات الوطن الأول:
ﻗﺒﻞ أكثر من ثلاثين سنة، وﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﻟﻴﺎﻟﻲ ﺩﻳﺴﻤﺒﺮ ﺍﻟﺒﺎﺭﺩﺓ ﻭﺿﻌﺘﻨﻲ ﺃﻣﻲ ..
ﻗﺎﻟﺖ ﺑﺄﻧﻲ ﺟﺌﺖ ﺃﻧﺎ ﻭﺃﺥٌ ﻟﻲ ﺗﻮﺃﻡ..
ﻣﺎ ﺯﻟﺖ ﺃﺗﺬﻛﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﻛﺤﻠﻢ ﻓﻲ ﺑﺌﺮ ﻣﻬﺠﻮﺭ .. أذكر أن أخي كان يقول ﻟﻲ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻧﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻄﻦ ﺃﻣﻲ: يجب ﺃلّا ﻧﺨﺮﺝ من هذا المكان، ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ ﻻ ﻳﺼﻠﺢ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ.
ﻛﺎﻥ يهمس لي بهذﺍ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻭﺃﻣﻲ ﻧﺎﺋﻤﺔ خوفا من ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻌﻨﺎ ﻭﺗﻌﺎﻗﺒﻨﺎ، ﻭﻛﻨﺖ ﺃﻭﺍﻓﻘﻪ بدون ﺃﻱ ﺗﻔﻜﻴﺮ ﻭﺃﺑﺼﻢ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺗﻌﻬﺪﺍﺕ ﻭﻭﺛﺎﺋﻖ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺩﻭﻥ ﺣﺘﻰ ﺃﻥ ﺃﻗﺮﺃﻫﺎ ..
ﻛﻨﺎ ﻧﺘﺸﺎﺭﻙ ﻃﻌﺎﻡ ﺃﻣﻲ ﻭﺷﺮﺍﺑﻬﺎ ﻭﺑﻄﻨﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ، ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺒﺮﻧﺎ ﻭﺷﻌﺮﻧﺎ ﺑﺎﻟﻀﻴﻖ ﻧﻘﻮﻡ ﺑﺮﻛﻠﻬﺎ، ﻫﻮ ﻛﺎﻥ يركلها ﺑﻘﻮﺓ ﻭﻳﺄﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃركلها ﺑﻘﻮﺓ ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺗﺮﺩﺩ ﻳﻬﺪﺩﻧﻲ بأنه سوف يركلني ﺃﻧﺎ ﻋﻮﺿﺎ ﻋﻦ ﺑﻄﻦ ﺃﻣﻲ ﻓﺄﻗﻮﻡ ﺑﺎﻟﺮﻛﻞ ﻋﺪﺓ ﻣﺮﺍﺕ ﻣﺘﺘﺎﻟﻴﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﻭﻗﻮﺓ، ﻓﻴﻨﻈﺮ ﻟﻲ ﻧﻈﺮﺓ ﺭﺿﻰ ﻭﺍﺭﺗﻴﺎﺡ ﺛﻢ ﻧﻨﺎﻡ ..
ﻛﺎﻥ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻛﻘﺎﺋﺪ ﻋﺼﺎﺑﺔ ﺧﻄﻴﺮﺓ، ﻳﻀﻊ اﻟﺨﻄﻂ ﻭﻳﻬﻨﺪﺱ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ، ﻟﻜﻨﻪ ﺑﻼ ﻣﺴﺪﺱ ..
بعد تسعة أشهر من الإقامة هناك ﺿﺎﻕ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻛﺜﻴﺮﺍ، ﻭﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺘﺴﻊ ﻟﻨﺎ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ ﺫﺍﺕ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﺤﺰﻥ: ﻻﺑﺪ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ! ﻗﻠﺖ: ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺧﻄﻴﺮ . ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ ﺧﻄﻴﺮ، ﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ. ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻭﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ ﺳﻼﺣﺎً ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ أوافقك الرأي لكننا مضطرون. ﻗﻠﺖ: متى؟ ﻗﺎﻝ : ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺴﻤﻊ ﺻﺮﺍﺥ ﺃﻣﻲ، ﻓﻜﻨﺖ ﺃﺗﺮﻗﺐ ﺻﺮﺍﺧﻬﺎ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﻔﺰﻉ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺃﻧﺎﻡ، ﺑﻴﻨﻤﺎ هو ﻳﻨﺎﻡ ﺩﻭﻥ حتى ﺃﻥ ﻳﻔﻜﺮ، فظننته ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺘﻰ ﺳﺘﺼﺮﺥ ﺃﻣﻲ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ، ﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﺧﺒﺎﺭﻱ ..
ﻓﻲ 29 ﺩﻳﺴﻤﺒﺮ 1985 ، ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﺎﻡ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻟﻴﻼ ﻭﻫﺪﺃ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ، ﺻﺮﺧﺖ ﺃﻣﻲ فجأة ﻓﺎﻧﺘﺒﻬﺖُ ﻣﺬﻋﻮﺭﺍ ﻷﺟﺪ ﺃﺧﻲ ﺍﻟﺘﻮﺃﻡ ﻳﻄﻤﺌﻨﻨﻲ قائلا: ﻻ ﻋﻠﻴﻚ ﺳﻨﺨﺮﺝ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ، ﻛﻨﺖ ﺃﺷﻌﺮ ﺑﺎﻟﺨﻮﻑ ﻭﺍﻟﻔﻀﻮﻝ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﻻ ﻳﺒﺪﻭ ﻋﻠﻴﻪ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺤﺰﻥ، ﻛﻠﺺٍّ ﻗُﺒﺾ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺘﻠﺒﺴﺎ ..
ﺧﺮﺟﺖ ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺑﻜﻲ ﻓﺎﻟﺘﻘﻔﺘﻨﻲ ﻋﺠﻮﺯٌ ﻭﻟﻔّﺘﻨﻲ ﻓﻲ ﺧﺮﻗﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ وﺧﻔﺔ ﻭﺣﺬﺭ ﺷﺪﻳﺪ ﻭﻭﺿﻌﺘﻨﻲ ﺟﺎﻧﺒﺎ، ﻓﺄﻧﺘﻈﺮﺕ ﺃﻥ ﺗﻀﻊ ﺃﺧﻲ ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻔﻌﻞ ﻓﻘﻠﺖ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻲ: ﻟﻘﺪ ﺧﺪﻋﻨﻲ ﺍﻟﺨﺒﻴﺚ، ﺗﺮﻛﻨﻲ ﺃﺧﺮﺝ ﻭﺍﺳﺘﺄﺛﺮ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﻤﻜﺎﻥ له وحده..
ﺃﺧﺬﺗﻨﻲ ﺃﻣﻲ في حجرها ﻭﺃﺭﺿﻌﺘﻨﻲ ﻭﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻬﻲ ﺑﻌﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﺒﺮﻳﺌﺘﻴﻦ ﻭﺍﻟﺤﺎﻧﻴﺘﻴﻦ ﻓﻨﺴﻴﺘﻪ..
ﺑﻌﺪ ﺳﻨﻴﻦ ﻃﻮﻳﻠﺔ جدا، ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻲ إﻧﻪ ﻣﺎﺕ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺧﺮﺝ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ..
ﺍﻵﻥ ﻭﺍﻵﻥ ﻓﻘﻂ، ﻋﻠﻤﺖُ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺣﺰﻳﻨﺎ..