قراءة:كمال محمود علي اليماني
بين يدي اليوم رواية للروائي والشاعر سمير محمد ، وهي من إصدارات دار عناوين في طبعتها الثانية في العام 2021م، جاءت في 275 صفحة من المقاس المتوسط، وله رواية أخرى من إصدارات نفس الدار تحت مسمى( موكا سيتي).
بالنظر إلى العتبة الأولى للرواية ، نجد غلافا عليه اسم المؤلف في الأعلى ، ويقع تحته اسم الرواية (السلاحف العرجاء)، ويبدو أن السلاحف قد اقتصها المؤلف من نداء الرئيس المخلوع ( علي عبدالله صالح) حين كان يردد إبان حرب 94م ( حركوا السلاحف ) ، بيد أن المؤلف يرى من خلال وصفها بالعرجاء أنها سلاحف لاتستطيع مواكبة العصر ، ولعلها تشدنا للوراء، وأحسب أن صورة الغلاف تؤكد صحة هذا الرأي ؛ إذ يظهر الغلافُ صنعاء القديمة ، ويظهر باب اليمن وهو مقفل ، وكأنه قد أوصد أمام كل جديد قادم ، وعلى يسار القارىء تبدو كاتدرائية القديس باسيل الشهيرة في موسكو لتشويق القارىء لمعرفة العنصر الجامع بين الصورتين في محتوى الرواية .
حمل تجنيس الكتاب صفة ( رواية).
وجاء في الإهداء : ( أهديك هذه الوردة من بستانك، فكل ما أكتبه، أنت من تصنعينه لي).
قسّم الروائي روايته إلى عدة فصول ، ووضع لها عناوين؛ هي عتبات نصية تستقبل القارىء حال دخوله إلى كل فصل ، وهي على النحو التالي : باب الكوخ، خارج الكوخ، أحلام تائهة ،الصدمة، يناير86م ، “سالم” ، شتاء” كييف” ،مايو 1990، جريمة الشرف، صنعاء العجوز التي لاتشيخ، الديمقراطية المرة.
ونلحظ من خلال العناوين أن المشهد السياسي حاضر وبقوة في ثنايا الرواية ، لكنها ليست رواية سياسة محضة ؛ فلقد اشتملت على ثيمات متعددة غير السياسة، فهناك ثيمة المهشمين ونظرة المجتمع لهم ، وثيمة العواطف المتقلبة لبطل الرواية والتي عاش من خلاها قصص حب ثلاث.
الرواية في شقها السياسي تدين أحداث013 يناير ومترتباتها، ومما جاء في ذلك ” عرف فيما بعد من الناس أن أعمالا انتقامية حصلت في كامل عدن ومناطق أخرى ، وانقسم الجيش والدولة لفصيلين، وكل فصيل يقوم بقتل الآخر حسب الانتماء المناطقي ”
وانتقد التجربة الوطنية الاشتراكية في الجنوب أيضا ، فحين سافر بطل القصة مختار إلى الاتحاد السوفيتي_سابقا_ ورأى موسكو ، راح يقارن بين المدينتين ، يقول الراوي ” موسكو مدينة ساحرة وعملاقة ، وعدن أشبه بالقرية الصغيرة، كما أن كل القصور والمنازل القديمة مازالت على حالها ، وتحولت لمتاحف مليئة بالآثار والمقتنيات العتيقة، على العكس من عدن التي أصبحت معظم المباني القديمة وقصور السلاطين فيها منازل للرفاق أو مقرات حكومية، فالاشتراكية طورت من موسكو، بينما لم تستطع أن تضيف لعدن أي شيء، فكانت هذه المقارنة الأولى ، وكانت صادمة إلى حد كبير”.
ولأن بطل الرواية من المهمشين ، فكان لزاما أن تطل محنته كمهمش على السطح ، وأن يعاني منها منذ أن كان في الابتدائية، ووصولا للثانوية ، فالجامعة، لولا أن نشاطه المجتمعي والحزبي قد خفف من وطأتها، بيد أنها ظلت مسكونة في وجدانه حتى أن والدته حين فاتحته بأمر زواجه قال لها:” الأسر الكبيرة التي تتحدثين عنها لن تعطي بناتها لشخص مثلي ينتمي لأسرة مهمشة “. وفي مكان آخر يقول مخاطبا أمه:” علينا أن نكون واضحين مع أنفسنا، نحن من الطبقة المهمشة ” الأخدام” ، هكذا ينظرون إلينا”.
كما يتعرض الروائي سمير محمد لنقد الجماعات الإسلامية المتطرفة ، حيث أن زميله حمود _ أثناء دراسته في موسكو _ ترك الدراسة واتجه إلى أفغانستان للانضمام إلى القوات المقاتلة هناك ضد الغزو الروسي، فلقد ظن مختارأن زميله حمود قد انطلق لفلسطين على اعتبار أنها القضية الأهم ، ولقد أبدى اندهاشه حين علم بأمر انطلاقه إلى أفغانستان من خلال زميلته عبير التي علقت قائلة:” يبدو أنهم قرروا تحرير القدس عبر سهول أفغانستان”. وفي عبارتها الشيء الكثير من التهكم الدال على معارضة الفكرة.
أما الفصل المعقود تحت عنوان ( الديمقراطية المرة ) فيفصح فيه الراوي عما شهدته البلاد من أحداث ماقبل وأثناء ومابعد حرب 94م ، وماكان يعتمل في المجتمع من اضطرابات سياسية تمور في داخله، وعن وهم القيادة السياسية في عدن التي ظنت نفسها قادرة على أن تتبوأ مركزا قياديا في الدولة عبر الانتخابات ، غير أنها باءت بالفشل ، فألتجأ زعيمها للاعتكاف في عدن ، ثم اندلعت الحرب بين الشمال والجنوب.
الرواية وإن عرضت لكثير من الجوانب السياسية التي عاشتها عدن ثم صنعاء ، إلا أنها لم تطرح كل ذلك في إطار سياسي فج ، بل عمد الروائي سمير محمد إلى إسباغ الجانب الروائي من خلال حبكة بدأت منذ بدايات الرواية ، وبطلها لما يزل طفلا ، حيث حذرته أمه من السياسة التي راح والده ضحيتها بدون جريرة ، وظلت تحذره حتى صار يافعا فشابا ، وظللنا نتابع أحداث الرواية والمواقف التي تعرض لها بطلها مختار ، ونحن نتلهف لمعرفة ماسيكون مصيره مع السياسة التي انخرط في لعبتها منذ بداياته الأولى ، ونتساءل :ترى هل سيلقى مصير أبيه كما حذرته أمه ، أم أنه سينجو منه؟
كان بطل الرواية مختار هو الشخصية المحورية للرواية ، ومن حوله ظهرت شخصيات رئيسية مثل كريستينا صديقته الأوكرانية حبه الثاني ، التي كانت تطمح لانفصال بلادها من الاحتلال الروسي _ حد اعتقادها_ ، وكان هذا يغيض مختار المؤمن إيمانا شديدا بالوحدة ، والمنافح عن فكرته بكل قوة. وكان هناك مثنى معلمه الحزبي ومسانده طيلة مشواره السياسي والعملي . وسالم صديقه الذي افترق عنه بسبب أحداث 86م ، والتقاؤه به بعد الوحدة في صنعاء وقد صار من رجالات الإسلام السياسي الأثرياء، وشخصيات أخرى أخذت حيزا بسيطا في الرواية كزميلته عبير – حبه الثالث – في موسكو والتي بسببها تورط في قتل طالب إفريقي ، وأدخل السجن في انتظار الحكم عليه ، وسناء حبه الأول والأخير ، وكل هذه الشخصيات استطاع الروائي أن يخلق من علاقتها بالبطل مختار حبكات فرعية عززت من قوة الحبكة الرئيسة للرواية ، ومن الشخصيات الثانوية أمه وأخته وغيرهم.
لغة الرواية كانت لغة ساردة ، ولعل ثيماتها قد فرضت غياب الشعرية عنها ، فالرواية واقعية ، ولاتحتمل لغة غير هذه ، ولقد تميزت الرواية بالتتابع بين الخطاب المسرود والخطاب المعروض المتمثل في الحوارات المباشرة الكثيرة التي دارت بين بطل الرواية والشخصيات الأخرى، والتي اعتمد الروائي فيها اللغة الفصيحة في مستوييها البسيط والوسط ، ووفق في ذلك أيما توفيق.
ونحى الروائي نحو اختيار صيغة روائية يطلق عليها ” براني .. داخلي ” ، فهو يرويها بضمير الغائب ، وهو في ذات الوقت عليم بكثير من التفاصيل ، والمعرفة بالأحداث والشخصيات ومكوناتها.
ظل خط الرواية أفقيا مستقيما منذ البداية حتى النهاية ، فلم تشهد الرواية أية استباقات أو استرجاعات ؛ لذا فقد كان زمنها القصصي قصير ، في حين أن زمنها التاريخي طويل؛ إذ غطى مرحلة ماقبل أحداث يناير مرورا بالوحدة ، مختتما بحرب 94م.
الرواية جميلة وممتعة ، وحبكتها مجدولة بشكل محكم ، وهي جديرة بأن تكون ضمن قراءات محبي الأدب الروائي .