حين تراني ذاهباً للمكان البعيد
وحيدًا لا أحمل إلا جوالي الصغير
بيدي ، وأضع نظارتي على عيناي ،
فعرف أني ذهبتُ لسياحتي الروحية .
تعصف بنا هموم الحياة أحيانا ،
ويخيم علينا الحزن أحياناً اُخرى
حين نفني جل أوقاتنا بالبحث عن
ملذات الحياة المادية وإشباع غرائز
النفس الحيوانية ، دون النظر
لحاجة العقل والروح من الجوانب
الروحية والفكرية ، في ملكوت
الله وبديع صنعه ، وعظمة حكمته .
في زمن الفوضاء ، والغوغاء ، و
وزحمة الحياة الصاخبة كم نحن
بحاجة للجوء إلى كنف الصمت
وحضن السكون لنعيش ولو لحظات
قليلة نخاطب الروح السامية .
ويبقى الصمت والهدوء ملاذًا
آمن أهرب إليه أحيانا من صخب
الحياة ، وضوضاء المدينة ..
هذا الأسبوع كانت رحلتي الصامته
إلى جبل الخزان بمحاذاة وادي
الأسلاف ..
اخترتُ السير منفردًا كي أستمتع
بالصمت ، والسكينة ، والهدوء وحيدًا .
الخزان : هو جبلٌ واسع كبير يضم
ما يزيد عن خمسة عشر شعباً متفاوت
الأنحدار ..
يحدهُ من الشرق وادي الجرباء ، ومن
الجنوب وادي الأسلاف ، ومن الغرب
وادي عقارب والمعزاج ، ومن الشمال
مدينة الضالع ، ويبلغ ارتفاع أعلأ قممه
ما يزيد عن ألفي متر ..
وهو عبارة عن هضبة متعرجة تتخللها
مرتفعات وقمم صخرية شديدة
الإنحدار ، وتوجد بهِ الكثير من
المنحدرات المتعرجة والضيقة ،
والتي تعتبر أرضُ بكرٍِ عذراء ، لم
تزل تحتفظ ببكارتها ، فالأشجار
المتنوعة تغطي معظم تلك الشعاب
الضيقة حتى وإن بدت جافة ويابسة
والبعض من تلك الأشجار تراها
مترهلة عطشى ، تكاد تخبر زائرها
بأنها تريد شربة ماء ..
حين ترفقتُ بهدوء بين تلك الشجيرات
ذهب عقلي بعيدا وعاد إلى مراتع
الصباء ، فثمة شجرة (عُسقي) هنا
كمثل تلك الشجرة التي طلما عشقتُ
ظلها صغيرا في مسقط رأسي ..
وثمة شجرة (رهضة) سقط ورقها ،
فصارت أعوادا جافة تشكي إليَّ
حزنها ..
فجأة يخرج أرنبٌ بري سريع كان
نائماً بجحرٍ صغير تحت شجرة وارفة
الظل ، يغرب كالسهم من أمامي لعل
قدمي زحلق حجرا فأوقضه ..
وعلى بعد أمتارٍ منهُ كانت مجموعة
من فراخ العُقب تتفيأ ظل شجرة
قرضٍ كبيرة ، أخافها قدومي فرفرفت
بجناحيها وطارت بعيدا هربا مني .
مجموعة ماعز تسير بترهل أمامي
وثمة أغنام رأيتها تتسلق تلك القمة
القريبة مني ..
كان الجو باردًا حتى والساعة تشير
إلى الحادية والنصف قبيل الظهر ..
الصمت يخيم على تلك الأرجاء
إلا من صوت عصافير يزقزقن على
شجرة السُقم الباسقة ، وصوت إذان
الجمعة الأول يأتي من بعيد ..
تحت ظل شجرة متفرقٌ ظلها ، و
فوق حجرٍ مسطحٍ أملس كالمقعد
الدوار جلستُ ، كان صوت حفيف
الشجر هو الصوت الأقرب الى مسامعي
في ذلك السكون الأخاذ ، والصمت
الكوني الرخيم ..
ثمة خواطر تنداح إلى مخيلتي تعود
بي تارة إلى عهد الطفولة حيثُ
مراتع الصباء ، وتارة اُخرى تسوقني
إلى عالم الملكوت حيثُ مأوى خلود
الروح ..
تتداعى الخواطر ، فأكتبُ عشرات
المجلدات في غضون لحظات قليلة ،
وتهتف بي بعض الهواجس والظنون
عن حقيقة هذه النفس الضعيفة من
الذات الناسوتية المخلوقة ، وبين عظمة
الروح اللاهوتية المقدسة وعظمة
الخالق الحكيم ..
ما زلتُ أبحر في خيالٍ رحب من
بحر الأفكار المترامية ، لم يخرجني
منهُ إلا صوت غراب حط بجانبي
فجأة ، وكأنهُ يريد أن يسألني بعض
الأسئلة التي تراود فهمه ..
بصوتٍ هادئ همستُ أهلا ومرحبا
أيها الطائر المشاكس الذكي ، ثم
قلتُ لهُ : أعلم أنك تحمل مشاعر
الحزن مثلي ولك عشرات الأسئلة عن
سر وجودنا ، لا عليك أيها الغراب
ادنو مني قليلاً ، لعلي أبوح لك بسرٍ
يسكن صدري ، فربما ستكون أنت
أحفظ من بعض البشر بمستودع سري
نفض ريشهُ وصفق بجناحيه ثم ولى
هاربا ولسان حالهُ يقول : ليس لكم
أي أمان يا معشر البشر ..
نهضتُ من مقامي وواصلتُ مسيري
عائدًا إلى منزلي ..