يقولونَ الأيام تمشي سريعًا ، لماذا آراها تمشي كسلحفاة مرهقة مصابة في قدمها !
أم إنها أيام التعساء فقط !!
يقول عمي أحمد جارنا التعيس الذي توفيت أسرته كاملة في الحرب .. إن حياته أصبحت عبارة عن يوم واحد يتكررُ كل يوم منذ يوم الحادثة ، حين أمر عليه وهو يجلس أمام بابه بالكرسي ليحصل على قليل من الهواء وألقي عليه السلام يرد : عليّ العذاب ، وعليكِ السلام ورحمة الله وبركاته.
كل يوم يعيد عليّ هذه الجملة وعلى مايبدو أن التعاسة عدوى فحلّ علي العذاب !
ذات مرة سألت العم أحمد محاولةً كسر روتينه ، أنه ما إذا كان صحيحا ماقالته أمي “من يبلع نملة يصبح شاعرا ! ”
نظر إلي نظرة متعبة وقال بهدوء: ابلعي وجربي ! قلت له بلعت وجربت ! عقد حاجبيه وقال : وماذا بعد؟ هل أصبحتِ شاعرة ؟ قلت له أصبحت أحب الشعر وأكتبُ النثر ، قال وهو يبتسمُ أخيرا نصف ابتسامةٍ
متعبة : إذن فلتبلعي عنكبوتا ، ربما تصبحين مفكرة عظيمة !
سعدت كثيرًا بنصف الابتسامة تلك .. التعساء بحق لا يصدقون السعادة ، يظنونها فخًا ، لذلك يحرصون دائما على الابتعاد عن الناس وكل شيء..
أتذكر ذات مرة بقيت الكهرباء مقطوعة ثلاثة أيام والعم أحمد ظل في بيته لم يخرج فذهبت لأطمئن عليه وأسأله إذا كان يحتاج شيئًا .. أضاء على وجهي بمصباحٍ صغير وقال لي : لا تقلقي علي أنا بخير ، إنهم يصورون لنا كيف ستكون ظلمة القبر وخنقته لنعتاد عليها قبل أن نموت وها نحن اعتدنا ، كنت أريد أن أضحك ولكنني عندما أضأت هاتفي على وجهه وجدت الدمع يحفر طريقه على خده ، ثم أردف بحزن بالغ وقال : نحن موتى يا ابنتي على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز ، إننا ننتظر مراسم الدفن فقط ، ثم ظل يشتم الوطن والحكام وكل من على الأرض .
الكل حولي مصاب بداء التعاسة ، حتى النملة التي رأيتها تمشي فوق يدي ورششتُ لها السكر اصطدمتْ به ووقفت ، وكأنها سمعت أني الفتاة آكلةُ النمل ، وكانت تنتظرُ مني أن أبلعها ، أي بؤسٍ هذا الذي يجعل نملة تتمنى الموت ! مع أن السكر كان أمامها.
أعود كل يوم إلى غرفتي المليئة بالخيبات الشاهدة على خرابي ، لأحكي لجدرانها عن مدى خيبتي الجديدة ، آخذ القلم المرمي على الأرض والدفتر الصغير على الطاولة وأكتب أعلى الصفحة : صدقت يا عم أحمد هو يوم واحد يتكرر كل يوم .. نحاول أن نعيش في هذا الوطن لكننا مع بالغِ الأسفِ نفشل !