بين يديّ اليوم كتاب بعنوان ” في شرق اليمن ” ثم عنوان فرعي سفلي “يافع” ، وهو لمؤلفه الراحل صلاح عبدالقادر البكري، اعتنى به وعلق عليه د. نادر سعد حلبوب العمري.
الكتاب من إصدارات دار الوفاق، وهي دار تعنى بالدراسات والبحوث التاريخية.
حمل الغلاف صورة يافع بجبالها وبيوتها وخضرتها. وجاء الكتاب في نحو 250 صفحة ذات المقاس الكبير، وفي الغلاف الأخير نبذة عن حياة المؤلف ومؤلفاته ، وهي مؤلفات شملت مواضيع عدة ، وإن طغى عليها الجانب التاريخي والجغرافي اليمني والعربي.
ولد المؤلف في عام 1912م ورحل عن دنيانا في عام 1993م ، وهو من مواليد إندونيسيا، وإن كان قد تلقى جل تعليمه في أرض الكنانة ( مصر).
ابتدأ الكتاب بالإهداء، ثم تقديم خطه د. نادر العمري، تبعه بتمهيد الكاتب، ثم حملنا بعدها معه في رحلته من جدة إلى عدن والتي ابتدأها في 2 يونيو 1954م، ولعله أنهاها بشقيها في ذات العام أو في العام الذي يليه على أكثر تقدير ؛ إذ كان منطلق الرحلة التي مقصدها يافع من جدة، وكان لابد من المرور إلى عدن ليتم الانطلاق عبرها إلى يافع مروراً بمكيراس فالبيضاء وصولا إلى حدود يافع ، وهي الرحلة التي عرّج فيها على جملة من مناطق يافع قراها وبلداتها، منها : قريش، خلاقة، الحضارم، ذي صرا، مسجد النور، الحصيرة، الجهاورة، والجربة. وكان لابد له من إكمال رحلته إلى مناطق أخرى ، لاسيما منطقة خلة أرض المفلحي ، لكن الطرق لم تكن سالكة، فاضطرته وعورتها للعودة إلى عدن مرة أخرى قبل إكمال خطة رحلته.
في رحلة أخرى شد المؤلف الرحال إلى خلة ، ولكن سبيل الرحلة هذه المرة كان عن طرق الضالع ومسيمير، وكان المنطلق من عدن فلحج ثم الملاح وصولا للضالع فالمقصد أي خلة ، ثم زار شُكُع التي تبعد عن خلة حوالي ساعة من الزمن سيرا على الأقدام.
ولضيق الوقت لم يواصل الأستاذ صلاح البكري رحلته حينئذٍ إلى يافع السفلى حيث القبائل اليافعية الكبرى كالناخبي واليزيدي والسعدي ويهر، فأرجأ زيارتها إلى وقت آخر ، وعاد إلى مصر . ولقد تهيأت له الفرصة لزيارتها بعدئذ ٍ، فانطلق من عدن مولياً صوب أبين ، ووصل إلى الحصن ، ثم إلى جعار فالشعيب، ثم العودة مرة أخرى إلى عدن.
الجميل في الكتاب أنه لايعرض رحلته بشكل عابر ، بل إنه في ثنايا عرضه يذكر للقارىء الكثير من المعلومات التي تدل دلالة قاطعة على سعة ثقافة مؤلفه ، فهو حين يصل إلى بلدة خلاقة ، مثلا ، في وقت أغارت فيه أسراب الجراد على المزارع المحيطة بالبلدة، راح يسرد ويضع بين يدي القارىء الكثير من المعلومات المتعلقة بالجراد وحياتها، وتركيبها، وغناها بالعناصر الغذائية، وعن المؤتمرات التي عقد لمحاربتها . وفي حوار دار بينه وبين أحد رفقائه إثر سقوط شهاب من السماء ، تحدث المؤلف عن الشهب وأنواعها ، وعن سرعتها، وعن اختلاف العلماء في أصلها ومصدرها.
وكان حديثه عن الآثار التي وجدت في قرية شُكُع حديثاً ممتعاً تناول في الصناعات الخزفية والفخارية.
بعد أن أنفق الأستاذ صلاح البكري مئة صفحة من الكتاب وصف فيها رحلته، وبعد أن أنهاها تماماً ؛ قرر أن يطلع القارىء على تاريخ يافع ؛ فبدأ بذكر علاقتها باليمن، ويقصد بذلك الدولة المتوكلية الهاشمية، ومادار بينها وبين يافع من مصادمات عسكرية، وتحدث كذلك عن أبين ووقعة الزاهر، ووقعة لحج، ووقعة المعسال، وتحدث عن دخول عدن عسكريا من قبل أحد سلاطين يافع ، ثم أخذنا معه في صفحات كثيرة ووصف موسع لتاريخ يافع في حضرموت ، والملاحظ أن المؤلف قد عني بالتاريخ العسكري من حيث الحروب التي دارت بين قبائل يافع والقبائل الأخرى في كل المناطق التي ورد ذكرها في الكتاب.
ولما أن فرغ من تاريخ يافع كان لابد له من أن يعرّف القارىء بجغرافية يافع فتناولها من الناحية السكانية والاجتماعية والثقافية كي يشبع نهم القارىء ، ولكي يحقق الهدف الذي من أجله قام بتأليف هذا الكتاب، وهو الهدف الذي أشار إليه في ص 85 بقوله:” تأليف كتاب يسجل تاريخ يافع وأحوالهم الحاضرة من كل الوجوه”.
يتضح للقارى من خلال صفحات الكتاب أن الأستاذ صلاح البكري ( رحمه الله) قد نال حظا وافراً من العلم والأدب, ولقد تجلت ملكته الأدبية في لغة الكتاب حيث تناثرت في ثناياه العديد من الصور الجمالية التي لاتتأتى إلا لأديب ، مثل قول:
“وعدنا إلى منزل النقيب وقد لفظ النهار أنفاسه، وبدأت كتائب الظلام تتلاحق فشملت الكون، واحتوى القدمة سكون عميق”.
أو قوله: (( نهضنا من النوم وقد تنفس الفجر وتدفقت جيوش النهار زاحفة وراء طبقات الظلام الهادئة الحالكة، واصطبغ الأفق بدماء الشمس الأرجوانية)).
أو (( إن غروب الشمس وانطفاء جذوتها واحم…
