كتب الناقد / فضل صالح
حين تقرأ قصيدة “فلسطين” في ديوان على مدى شامة من الآن للشاعر بسام الحروري لا تقرأها كمتلقٍ عابر، بل كمؤمن بجمال الشعر حين يتحول إلى وطن بديل، ومحراب للحنين، ومرفأ تتكسّر عليه أمواج الغربة. فالنص لا يقف عند حدود البوح، بل يتجاوزها ليبني خطابًا شعريًا قائمًا على الحب، والقداسة، والانتماء، في تمازج دقيق بين الذات الشعرية والجغرافيا المستلبة.
القصيدة تفتح أبوابها بنداء متوهج:
“أحبك حتى التعب، أيا مقدس الحب حين اغترب…”
إنها افتتاحية لا تقول الحب فحسب، بل تجرّ القارئ إلى عتبة من وجعٍ جميل، حيث تكون فلسطين ليست مجرد وطن يُحتل، بل أنثى مقدسة، مدينة من ذهب، نبية، وياسمينة تعرج منها صلاة القلب.
يشتغل الحروري على جمالية التكرار في “أحبك…”، لا كمجرد تأكيد عاطفي، بل كإيقاع روحي ينسج من خلاله صلاة شعرية تتلى على مسامع المدن: يافا، عكا، حيفا، الخليل، غزة، بيسان، النقب. هذه المدن لا تظهر على هيئة جغرافيا، بل على هيئة أحباب، على هيئة شهقات حب، وأسماء تتردد في ذاكرة المنفى.
ومن رحم الحنين، ينسج الشاعر صورًا تنأى عن المباشرة، وتستعير من المخيال العربي والإسلامي ما يمنح النص أفقًا روحيًا عميقًا. فحين يقول:
“أنت النبية… عند عينيك أصلي…”
فهو لا يكتفي برفع الوطن إلى مقام القداسة، بل يوغل في تطهير العلاقة به، حتى تغدو القصيدة شعيرة، والوطن محرابًا، والمدينة صلاة.
لكن هذا السمو الروحي لا يغفل عن توظيف الشعر كوسيلة للمقاومة، إذ تأتي نهاية القصيدة صاعدة بنغمة عالية النبرة:
“وترا
حرًا
شجيًا
ملء خفقي يضطرب…”
هنا يتسع الجسد الشعري ليحتوي الوطن والثورة، اللحن والشهيد، في لحظة اندماج نهائية بين الذات والأرض، بين الخيال والدم.
في هذا النص، اللغة لا تتحدث عن فلسطين، بل تتجسدها. فالقصيدة لا تقدم موضوعًا بل تعيشه، والقصيدة ليست وصفًا بل فعل حبٍّ دائم التجدّد. إن بسام الحروري، الذي جاء من جنوب اليمن محمّلاً بتاريخ القهر والانتماء، لا يكتب عن فلسطين كما تُكتب الأخبار، بل كما تُكتب القصائد التي لا تنتهي.
وهكذا، تتحول القراءة من فعل نقدي إلى طقس تلقي، فيه تتقاطع الذات القارئة مع الذات الشاعرة، لا بوصفها محللةً للنص، بل عاشقةً له. إن هذا النص يمنح قارئه فرصة أن يكون جزءًا من نشيده، يردّد معه:
“بهيام سأغنيك… كلحن حين يسري في شراييني…”
فهل ثمّة أجمل من أن تكون القصيدة وطنًا؟ وهل أعذب من وطنٍ تحمله الكلمات، وتبنيه القصائد، وتُصلي عنده العيون؟