أنا لا أكتب الكلمة،
أنا أستدعيها من الفراغ كما يُستدعى النور من العتمة.
حين أكتب، لا أبحث عن المعنى،
بل أُصغي إليه وهو يتشكّل في الظل،
كجذرٍ لا يرى الضوء لكنه يحمل الشجرة كلها.
هي ليست أداة،
بل كائنٌ يمشي بجانبي،
له صوتٌ يشبهني حين أكون في أقصى اكتمالي،
وحين أكون في ضعفي أيضًا.
الكلمة لا تأتي إليّ،
بل تظهر في النصّ كما تظهر الملكات في ساحة المرايا،
ممشوقة، مشعّة،
كأنها تعرف أين ستقع الدهشة،
وكيف تحفر أثرًا لا يُمحى في ورق لا يُرى.
أنا لا أصنع المعنى،
أنا أحرّره.
المعنى كان دائمًا هناك،
ينتظر من ينقّب فيه لا من يفرضه،
من يلمسه كأثرٍ مقدّس، لا كأداةٍ للإقناع.
كلّ حرف أكتبه،
كأنه إصبعٌ يفتح مغلاق المعجزة،
وكل سطر،
رصيفٌ يصلني بشيءٍ أكبر من اللغة.
أنا أختبر فيه حدود نفسي.
الكلمة ليست صوتًا يخرج مني،
بل طقسٌ أفيض به،
يمر في الداخل،
ويترك أثره كنسمةٍ تتذكرها الروح أكثر من الجسد.
أكتب كما يكتب الضوء على سطح الماء،
بلا وزن، بلا جهد،
لكن كلّ شيء يهتزّ من حوله.
في لحظة الكتابة،
أكون أكثر حضورًا من أي وقت،
وأكثر غيابًا من أي حضور.
الكلمة ليست بي،
لكنني حين أكتبها جيدًا،
أصبح أكثر شبهًا بنفسي،
كأنها مرآة صنعت من صدري لا من زجاج،
تعكس ما لا أجرؤ على رؤيته.
أنا لا أذهب من الواقع إلى النصّ،
بل أعود من النصّ إلى واقعٍ أكثر إشراقًا،
واقعٍ لم يُمتحن بعد،
لكنه ممكن، فقط بالكلمات.
أحبّ الكلمة،
ليس لأنها تبوح،
بل لأنها تكشف.
لا لأنها تعيدني إلى صوتي،
بل لأنها تُعيدني إليّ.
كلّما فقدتُ صوتي،
أبحث عنها، لا لتتكلم عني،
بل لتدلني على الطريق.
كل كلمة أكتبها،
هي حياةٌ صغيرة تُولد بلا بكاء،
تمشي بلا خوف،
وتنظر إليّ كابنةٍ تعرف ضعف والدها،
ولا تبتعد.
أحبُّ يدي،
لأنها آخرُ ما تبقّى من جسدي في الغرق،
تكتب حين لا أقدر على الكلام،
وتُمسك بالحرف
كما يُمسك الغريق بظلّ السطح.
تخرج من صمتي بما لم أستطع قوله،
وتقف تفكر،
وأحيانًا تتحداني.
أنا والكلمة،
نلتقي حين لا يتبقى في العالم ما يُقال،
ثم نبتكر ما لم يكن.
نبني جملةً من الغياب،
ونترك فاصلةً في الهواء.
ليس لأن العالم ينقصه الكلام،
بل لأن الصمت فيه كثير…
ولا بد من جسور.
في النهاية،
أنا لا أكتبُ لأُثبت شيئًا،
بل لأجعل الصمت قابلاً للعيش،
واللغة قابلة للامتداد إلى ما بعد المعنى.
في عالمٍ مزدحمٍ بالشرح،
أبحث عن مساحةٍ للتأمل،
عن جملةٍ تترك مكانًا للسكوت بعدها.
حين تغادر الكلمة الورقة،
أبقى أنا منفكًّا عنها،
لكني أبدو أكثر اكتفاءً…
كأنني أصبحت نصًّا.
