مكان يعرف أكثر/بقلم:علي جاسم

لم يتركوا سوى آثارٍ صغيرة:
خطوطٌ على الرمل محتها الريح،
وأصواتٌ متفرقة تتردد بين الجدران، كأنها تدريبٌ على الغياب.
الأماكن تعرفهم أكثر منا.
المقاعد الخشبية تحفظ انحناءات أجسادهم،
النوافذ المشرعة تُفتح بالعادة،
والأبواب تصدر الصرير نفسه في كل محاولة دخول،
كأنها تذكّر بما لم يعد موجودًا.
كل شيء يشير إليهم:
الغبار الذي لم يُمسَح،
الكتب المفتوحة على جملة مبتورة،
المصابيح التي لم تُطفأ في الليلة الماضية،
ورائحة القهوة التي استقرت في الجدار
كأنها زمن لم يتوقف.
في الممرّ، يعلّق الهواء نفسه على خطاهم،
يتدرّب على الانتظار،
ويعيد ترتيب الفراغ بحيث يشبههم.
لم يقولوا وداعا،
تركوا المشهد نصف مكتمل،
كأنهم خرجوا لالتقاط نفس قصير،
ولم يجدوا طريق العودة.
الآن، كلما مرّت يدٌ على الطاولة
أحسّت بخشونة غيابهم،
وكلما أُغلِقت نافذة
ارتجف المكان ،كما لو أن شخصًا آخر هو من غاب.
الظلال التي تركوها لم تغادر.
تتمدد مع الغروب،
وتستعيد ملامحهم عند الفجر،
كأنها تتكاثر من ذاتها،
وتملأ الفراغ بأصداء تتناوب بين وضوح وخفاء.
على الرفوف، تقف الأشياء كأنها في طابور انتظار:
معطف لم يُطوَ،
رسالة لم تُفتح،
ساعة حائط توقفت في لحظةٍ لا يعرفها أحد.
الهواء يعرف أكثر،
ينتقل بين الغرف كحارسٍ صامت،
يحمل أصواتهم إلى الأبواب،
ويضع بقاياهم في الممرات الطويلة
مثل إيماءاتٍ غير مكتملة.
لا أحد يملك أن يُنهي هذا المشهد.
كل محاولة إغلاق تتحول إلى بداية جديدة،
كل محاولة نسيان تستحضر تفاصيل أصغر،
حتى يصبح الغياب أكثر وضوحًا من الحضور ذاته.
المكان يعرف أكثر:
يعرف أن الزمن بداخله مستمر،
وأن الخطى التي مضت لم تغادر فعلًا،
وأن كل ما يراه الناس فراغا
ليس إلا ازدحاما غير مرئي.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!