حين يصبح الوردي قيدا والأزرار رمزا للسلطة/بقلم: الشاعرة المصرية فابيولا بدوي

لماذا بدأ صناع الموضة لا يلتفتون إلى احتكار الألوان بحسب الجنس ولا إلى الأزرار أين توضع؟
لأننا ببساطة لا نُقيَّد فقط بالقوانين أو الأوامر الصريحة، بل بأزرارٍ صغيرة وألوانٍ هادئة تُزرع في حياتنا حتى تصير بديهيات. لم يخطر لنا يومًا أن نتساءل: لماذا تُغلق قمصان الرجال من اليمين وملابس النساء من اليسار؟ ولماذا صار الوردي حكرًا على الفتيات والأزرق على الصبيان؟ هذه التفاصيل، التي نمرّ عليها بلا اكتراث، هي في الحقيقة أوتاد تُثبتنا في قوالب أوسع من أن نراها.

في أوروبا القديمة، كان الوردي لونًا للأولاد، لأنه امتداد للأحمر، رمز الدم والقوة. أما الفتيات فحُصِرن في الأزرق الفاتح، لون العذراء مريم، النقاء والسكينة. ثم جاء القرن العشرون، فانقلب كل شيء: الشركات الصناعية والتسويق الجماهيري صاغوا لنا “حقيقة جديدة” بأن الأزرق رجولي والوردي أنثوي. لم يكن الأمر اكتشافًا بيولوجيًا، بل صناعةً للهوية تُباع في المتاجر وتُغرس في العقول.

والأزرار ليست أقل دهاءً. الرجال يزرون من اليمين لأنهم كانوا يحملون السيوف ويحتاجون لفتح المعطف بسهولة، والنساء من اليسار لأن الخادمات هن من يُلبسنهنّ. ترتيب جسدك على يد الآخرين تحوّل إلى قاعدة أبدية: جسد الرجل ملكه، وجسد المرأة موضوع ليدٍ خارجية. انتهى زمن السيوف والخدم، لكن الزرّ ما زال في مكانه، شاهدًا على وصاية لم نعد نراها، لكنها تحكمنا.

القوة الحقيقية لا تأتي من القوانين وحدها، بل من قدرتها على التسرّب إلى أصغر تفاصيل الحياة. حين يكبر الطفل وهو يرتدي اللون الذي “يليق بجنسه”، وحين تكبر الفتاة وهي تغلق ثوبها بطريقة مختلفة عن أخيها، تنغرس في اللاوعي فكرة أن الهوية محددة سلفًا، وأن الطاعة تبدأ من التفاصيل. نحن نتصور أننا أحرار لأن القيود لا تُوجّه إلينا بصوت عالٍ، لكنها في الحقيقة تنام في عاداتنا وتستيقظ في أجسادنا كل صباح.

التمرد لا يكون فقط في مواجهة السلطة الكبرى أو في كتابة بيان سياسي. التمرد يبدأ حين نكسر أوهام التفاصيل. أن نرتدي ما نشاء بلا شعور بالذنب، أن نضع الأزرار حيث نريد، أن نلوّن الطفولة بلا ترميز زائف. الحرية لا تُمنح في خطابات، بل تُنتزع من أصغر تفاصيل الحياة. وعندها فقط ندرك أن ما بدا يومًا طبيعيًا لم يكن إلا قيدًا متقن الصنع

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!