أسطورة الأنف والعدم/بقام: علي جاسم

في أزقّة باريس العفِنة،
حيث تختلط دماء السمك الفاسد برطوبة الأرض،
وُلد طفل لا يشبه أحدًا.
صرخته لم تُسمع،
لكن أنفه كان فاغرًا منذ اللحظة الأولى،
يلتقط روائح الدم والوحل والحياة،
كأن العالم خُلق من أجله في قارورة خفية.
أمُّه تركته هناك،
بين العفن والفضيحة،
ومضت،
كأنها لم تلد إلا لعنة.
لكن القدر التقطه من يد الإهمال،
ليفتح أمامه دربًا يتجاوز كل المدى المعروف.
كان غرونوي يعيش بلا قلب،
لكن بأنفٍ يتجاوز الآلهة.
يشمّ الفرح والحزن،
المرض والخطيئة،
يشمّ ما لا يراه أحد،
وما لا يجرؤ أحد على تسمية رائحته.
دخل دكّان العطّار بالديني،
وهناك بدأ التاريخ يتغيّر.
أدوات زجاجية، زيوت، أزهار،
لكن غرونوي لم يرد محاكاة الطبيعة،
بل أراد أن يخلق طبيعة أخرى،
أن يخترع عالَمًا تُسيّره الرائحة وحدها.
ثم تحوّلت الموهبة إلى هوس،
والهوس إلى جريمة.
تبع الفتيات العذراوات في الأزقّة،
التقط روائح شعورهن وأجسادهن،
ثم خنقهن ليحتفظ بأرواحهن عطرًا خالصًا.
كل جريمة لم تكن قتلًا،
بل كانت تقطيرًا،
تجريدًا للروح من الجسد،
ليضعها في قارورته.
وبين يديه،
تكوّن “العطر الأعظم”.
مزيجٌ لا يصفه عقل،
عطرٌ قادر على أن يجعل الملوك عبيدًا،
والجماهير قطيعًا يركع برغبة.
وحين سيق إلى المقصلة،
لم يكن مذعورًا.
رشّ من قارورته على الهواء،
واستسلم الحشد لإغواء العطر، في حالة جماعية من الرغبة،
الجلاد انحنى،
النساء اندفعن،
المدينة كلّها غُمرت بذهولٍ شهواني.
غرونوي ابتسم.
لم يكن إنقاذًا من الموت،
بل إعلانًا أنه سيّد الخلود.
ومع ذلك…
لم يجد الحب.
لم يجد حضنًا يخصه.
لم يجد عطرًا يعطر قلبه.
عاد إلى الأزقّة حيث وُلد،
جلس وسط الحشد البائس،
سكب آخر قطراته على جسده،
فاندفعوا نحوه كمن فقدوا عقولهم تحت السحر،
أمسكوه بشهوة،
لا عن كراهية، بل عن حبّ غامر.
هكذا انتهى غرونوي.
الطفل الملعون،
العبقري الذي جعل العطر لغةً للهيمنة،
القاتل الذي صار أسطورة.
لم يبقَ منه شيء،
إلا رائحة عابرة،
تسكن في ذاكرة باريس القديمة،
كملكٍ للعطر والعدم،
وكظلٍّ من أسطورة الأنف… الذي لم يعرف يومًا قلبًا، ولا وطنًا.
وفي النهاية،
كان كأنه لم يولد قط:
كل عبقريته، كل عطوره، كل أسطورته،
لتبقى الحكاية وحدها،
عطرًا يتيه بين الأزمنة،
يتسلّل إلى كل حافة من باريس،
ويهمس بأنف الأسطورة،
أن العبقرية والجنون يختبران إمكانية الإنسان.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!