نظنّ أن القيود تُصاغ من حديد، لكنها أحيانًا تُخاط من قماش، وتُربط بخيط، وتُصنع بكعب عالٍ. الحرية ليست شعارًا سياسيًا فقط، بل مساحة جيب، وخفة خطوة، وخيار حقيبة. ومع ذلك، لم نسأل أنفسنا يومًا: لماذا صُمّمت ملابس الرجل بجيوب عميقة تكفيه، وصُمّمت ملابس المرأة بلا جيوب تقريبًا؟ لماذا يُفترض أن تحمل حقيبةً بدل أن تتحرك بحرية؟ لماذا حذاء الرجل مريح متين، وحذاء المرأة أداة زينة تقيّد جسدها وتبطئه؟
منذ القرن التاسع عشر في أوروبا، انتشرت في أزياء الرجال بدلات أنيقة بجيوب واسعة: الجيب هنا ليس مجرد تفصيلة عملية، بل رمز لوضعية اجتماعية؛ الرجل مواطن فاعل، يحتاج أن يحمل مفاتيحه، نقوده، أوراقه، أدواته. أما المرأة فحُرمت من الجيب العميق، واستُبدل لها بحقيبة يد صغيرة تحملها في يدها أينما ذهبت، لتكون جزءًا من صورتها الاجتماعية أكثر من كونها وسيلة للحرية. الحقيبة ليست وعاءً للأشياء بقدر ما هي قيد يذكّرها دائمًا أنها بحاجة إلى حمل إضافي.
ثم جاءت الأحذية لتُكمل اللعبة: حذاء الرجل عملي، يتيح له الحركة، المشي بسرعة، الركض إن أراد. أما المرأة، فمربوطة بكعب عالٍ، يغيّر شكل جسدها، يرهقها، ويجعل خطواتها أقصر وأبطأ. الكعب العالي وُلد في البلاط الأوروبي رمزًا للأرستقراطية والتمييز الطبقي، ثم استُبقي للنساء كجزء من صورة “الأنوثة المثالية”. وهكذا تحوّل الجسد نفسه إلى مسرح للزينة المفروضة، لا حرية الحركة.
هذه ليست تفاصيل بريئة. الجيب، الحقيبة، الحذاء… كلها قضبان صغيرة غير مرئية نصطدم بها كل يوم ولا نلتفت إليها. القضبان لم تأت من قانون معلن، بل من عرف اجتماعي صامت يفرض علينا أن نقبل الفرق كأنه طبيعي. الرجل يتعلم منذ طفولته أن جيبه يكفيه، أن قدميه حرتان، أن يديه فارغتان. المرأة تتعلم أن حقيبتها لا تنفصل عنها، أن جيبها بلا جدوى، أن قدميها مؤطرتان.
أكررها دائماالحرية تبدأ حين نكسر أوهام التفاصيل. حين نسأل: لماذا لا تكفي ملابسي حاجتي؟ لماذا تُصاغ خطواتي في قوالب محددة؟ التمرد هنا لا يقتصر على مواجهة القوانين، بل على كشف القضبان الصغيرة التي تُبنى حولنا كل يوم من خيط وقماش وكعب. الحرية أن نعيد تصميم أجسادنا كما نشاء، لا كما يفرض علينا تاريخ طويل من الوصاية الناعمة