أسعدني الروائي عيدروس الدياني إذ أهداني نسخة من روايتة (عتمة عيد )، وهي الرواية التي ظهر فيها أكثر نضجا، وأقدر على الإمساك بزمام الأحداث، وصنع الحبكة المتينة ، والصياغة اللغوية البديعة.
تتناول الرواية حكاية شاب اسمه بدر أو عيد كما كانوا يطلقون عليه في صغره؛ إذ وافق يوم ميلاده ثاني أيام العيد، ويرحل بنا الراوي وهو بطل الرواية ليحكي لنا حكايته في 26 كتلة سردية، وهي كتل مرقمة لم تحمل عناوين سوى الكتلة الثانية بعنوان (عدن مدينة الجميلات).
كان الخط السردي مستقيما في مجمل الرواية لكنه شهد أيضا تقنية الاسترجاع في الكتل السردية في المقدمة، ولقد لجأ عيدروس الدياني إلى تقنية تعدد الأصوات أيضا في الكتل السردية الأولى، حيث يصبح أبو بدر هو الراوي في الكتلة السردية الثالثة، وفي الكتلة الرابعة يجتمع الصوتان بدر وأبوه، ومما راقني استخدامه للتجريب في نهاية الرواية، حيث استدعى الراوي وبطل الرواية بدرُ عيدروسَ المؤلف، وراح يسائله ويبدي له بعض الملاحظات التي رأى بدرُ أن المؤلف قد أغفل الحديث عنها، أو أنه لم يشبعها تناولاً.
كانت الرؤية السردية داخلية/ برانية ، حيث جاء السرد بصيغة المتكلم المشارك/ غير العليم.
الرواية حفلت بلغة جميلة عالية تخللت السرد، منها:
– وبدأ الزمهرير يتنفس على استحياء فجراً.
– أخيرا هطل المطر من سحب جوفي السوداء. وانظر إلى جمال لغتة في قوله:
(( نظر أبي إلى السماء ثم واصل حديثه بصوت حزين: قبل أن تغيب شمس يوم الأربعاء في فصل خريفي حزين، غابت شمس أبي، طارت صيحات النساء في كل اتجاه، وأخذت الشمس تسحب خيوطها بهدوء، ليحل الظلام سريعا، بينما جثمان أبي أمامي مغطى بشرشف رقيق )).
شملت الرواية الكثير من الخطاب المسرود، وكذا الكثير من الخطاب المعروض (الحوار)، الذي كانت له قيمته الفاعلة في النص الروائي، والتي كشفت كثيرا مما كان يعتمل في وجدان أبطال الرواية، وحملت الرواية في ثناياها الكثير من العبارات والتأملات والتساؤلات الفلسفية والوجودية مثل قوله:
– هل ما زلت أحب الحياة ؟ أم أن خوف الموت لا علاقة له بحب الحياة؟
– فعلا أنا لست شجرة، ولا نبتة صغيرة، لست زرعا يحصد أو يترك حتى يصير قشا يتفتت فتذروه الرياح، لا أشبهها سوى أنني وهي ننمو، ونكبر حتى نشيخ، ثم نموت…
الأشجار لا تتأثر بالقذر، ولا تتسخ، ولا تتنجس بالآثام، إنها نقية طاهرة وإن زرعت في أقذر الأماكن.
ومن جميل ما أعجبني في الرواية وصفه للشخوص، فهو يقول واصفا عمه ، مثلا:
كان ذلك الرجل عمي أصهب اللون، شعره الأشيب الناعم يتدلى من تحت عمامته الملونة التي تحوي الكثيرة من وشي النجوم.
ويصف زميلا له: نحيل الجسد والوجه، قمحي اللون، أنفه طويل، أسنان فكه العلوي بارزة قليلا، له ضحكة مميزة.
وغيرها كثير، مما حفلت به الرواية
كان بدر هو بطل الرواية وراويها في الغالب، وشاركه البطولة آخران أساسيان هما صديقه رياض، ومحبوبته بسمة التي تعرّف إليها في عيادة الطبيب النفسي حيث كان يتلقى علاجه، وكانت هي كاتبة التسجيل هناك، وكان لهذين البطلين دور كبير ومهم في تحسن صحته النفسية وشفائه من الاكتئاب الذي أصابه. كانت مواقف صديقه رياض كثيرة، وهي مواقف إنسانية رائعة، يقول بدر)) الصديق شخص يقاسمك همومك، مشاكلك، والقليل من أفراحك، ذاك هو ريا ض)). ويقول:
– هل أحببتَ عدن ؟
– نعم، رغم كل الآلام التي رافقتني، وترافقني ، إنها المدينة التي تواسيني، إنها تشبهك يا رياض. والبطل الرئيس الآخر هو محبوبته بسمة التي استطاعت أن تمنحه قدرا كبيرا من الثقة بنفسه وبقدراته، وشجعته على الالتحاق بالدراسة الجامعية، واشترت له دراجة هوائية أعطته إياها على أنها لأحد أقاربها. وظلت تلازمه في رحلة علاجه حتى تسرب الحب إلى قلبها ثم إلى قلبه. وهناك شخوص آخرون ثانويون كأبيه ، وأمه، ووليد، وأم أحمد ، والذباب وغيرهم.
والجميل أن الرواية ضمت بطلا غير بشري شارك بدر روايته، ذلك هو قلب جده الذي:((مات جدي منذ زمن بعيد، ولكن قلبه هرب إلى السماء، لم تستطع المكواة أن تثبته مكانه، بل تحرر إلى الأبد، أراه يحلق في الأفق، يتراءى لي كلما سمعت صوت طائرة أو رأيتها تختلط سحب السماء، وأحيانا أخرى رهف دون أن تكون هناك طائرة في السماء، بسبب ما لا أعلمه لذلك الوقت)).
وقد رأى ذلك القلب مرات عديدة، وكانت كل مرة يراه فيها يتبعه انفجار إرهابي يودي بحياة بعض من البشر الأبرياء، وهي انفجارات تخللت الرواية وانتهت بإحداها. وفي ذلكم إدانة جلية لما كانت البلاد تعانيه من هجمات إرهابية جعلته يصف البلاد في جملة مريرة .
– البلد كلها محمية أشواك.
وهي إحدى الثيمات التي قامت عليها الرواية.
لم أتطرق إلى أحداث الرواية بإسهاب، ولكنك عزيزي القارئ ستجد متعة لذيذة وأنت تتنقل بين سطور الرواية، فلا تفوتنك فرصة قراءتها إن سنحت لك.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية