حين نغيّر الإله ونُبقي على الكهنة/ بقلم:الشاعرة المصرية فابيولا بدوي

 

يبدو شعار “فصل الدين عن الدولة” كأنه وعد الخلاص في الخطاب العربي الحديث. يردده العقلانيون باعتباره الحدّ الفاصل بين الظلام والنور، بين مجتمع يعبد السلطة ومجتمع يعبد الحرية. لكن، ماذا لو كان هذا الشعار — رغم عدالته الشكلية — يخفي تبسيطًا مريحًا لمشكلة أعقد بكثير؟ وماذا لو أن الدين ليس سوى قشرة تغطي جذرًا أعمق، ذلك الجذر الذي يمدّنا دومًا بنفس الثمار القديمة حتى بعد أن نغيّر الشجرة؟

في منطقتنا، الدين ليس مجرد منظومة عقائدية، بل لغة وجودية تشكّل الذات والوعي والعلاقات. لقد تسرّب إلى مفاصل الحياة اليومية حتى صار هو الهوية، لا الإيمان فقط. لكن تحت هذه الطبقة الدينية، هناك موروث اجتماعي وثقافي أقدم منها جميعًا: موروث السلطة الأبوية، والقبيلة، والوصاية، والذكورة، والطاعة العمياء. هذه البنية القديمة هي التي استعارت الدين لاحقًا لتمنح نفسها شرعية. فحين نحاول فصل الدين عن الدولة دون تفكيك تلك البنية، فإننا في الحقيقة لا نحرّر الدولة من الدين، بل نغيّر الأقنعة فقط: تسقط لحية الواعظ، لتظهر بدلها بدلة البيروقراطي الذي يفكر بعقل الواعظ ذاته.

الدولة “المدنية” التي لا تتغيّر بنيتها الذهنية، يمكنها أن تُقصي رجال الدين رسميًا، لكنها ستستدعيهم رمزيًا في كل لحظة: حين تكمّم صوت المرأة باسم الأخلاق، وحين تفرض الولاء باسم الوطنية، وحين تزرع الخوف في النفوس باسم “الاستقرار”. بهذا المعنى، فصل الدين عن الدولة لا يصنع مجتمعًا جديدًا ما لم نفصل الإنسان عن الخضوع. المشكلة ليست في وجود النصوص، بل في استعدادنا النفسي لتقديس أي سلطة — حتى لو لم تكن دينية.

التركيز على نقد الأديان فقط جعل كثيرًا من المثقفين العرب يعيشون وهم الجرأة دون المساس بجوهر المسألة: لماذا ما زلنا نبحث عن سلطة نؤمن بها أكثر مما نؤمن بأنفسنا؟ يمكنك أن تفصل الدين عن الدولة، لكنك لن تستطيع فصل الخضوع عن المواطن ما دام لم يتعلم أن الشك فضيلة، وأن السؤال لا ينقص الإيمان بل يحرره. ويمكنك أن تهدم سلطة الفقهاء، لكن ستظهر سلطة جديدة — حزبية، قومية، أو حتى “تحررية” — تُعيد إنتاج نفس المنطق الأبوي: “اتبعني، فأنا أعرف أكثر”. إذن فالمعركة ليست مع النصوص الدينية، بل مع الذهنية التي تتغذى على اليقين وتخاف الحرية.

لن تتغير المجتمعات هذه المنطقة بفصل الدين عن الدولة فقط، بل حين نبدأ فصل العقل عن التبعية، والضمير عن القطيع، والهوية عن الخوف. حين نعيد تعريف المقدّس بحيث يصبح الإنسان وكرامته هما مركزه، لا أي سلطة تتحدث باسمه. نعم، فصل الدين عن الدولة ضرورة، لكنها لا تُحدث ولادة جديدة ما لم تُمسّ الجذور التي أنجبت الدولة الدينية أصلاً. فمن دون نقد الموروث الاجتماعي، والسلطة الأبوية، واللغة التي تبرر القهر باسم النظام، سنجد أنفسنا — بعد كل صخب التحرر — في المربع ذاته، نغيّر الإله ونبقي على الكهنة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!