كيف سرق تجار الدين معركة الوعي/بقلم : الشاعرة المصرية فابيولا بدوي

لم يخسر المثقفون معركتهم أمام الجهل فحسب، بل أمام تحالفٍ ذكيٍّ بين الخرافة والمصلحة.
فحين كان اليسار العربي منشغلًا بتنظيم البيانات، والعلمانيون غارقين في الجدل حول المصطلحات، كان تجار الدين يُعيدون هندسة الوعي الجمعي بهدوء، تحت حماية السلطة نفسها التي ادّعى المثقف محاربتها.

لقد دخل تجار الدين من الباب الذي تركناه مفتوحًا: باب الجوع والخوف والجهل.
أما نحن، فدخلنا من النوافذ الأكاديمية، نحمل لغة مترجمة لا يفهمها الناس، ونحلم بثورة لا تشبههم.
تحدثنا عن العدالة الاجتماعية دون أن نُمارسها، وعن التنوير بينما نحن أنفسنا أسرى أبراج النخبة.
فاكتشف الناس سريعًا أن من يخاطبهم باسم الله أرحم ممن يخاطبهم باسم الحرية.

كان فشلنا مزدوجًا: فشلًا في التواصل وفشلًا في الموقف.
حين تحالف رجال الدين مع السلطة، كنا نحاضر عن الدولة المدنية في مقاهي المثقفين.
وحين استُخدمت الفتوى لتبرير القمع، كنا نناقش إن كان مصطلح “العلمانية” أفضل أم “المدنية”.
لقد قاومنا النصّ بالنصّ، ولم ندرك أن معركتنا الحقيقية لم تكن فكرية فقط، بل معركة على الخبز والكرامة واللغة نفسها.

اليسار العربي، الذي وُلد على وعد الدفاع عن الفقراء، خانهم مرتين: مرة حين تحوّل إلى بيروقراطية حزبية تبحث عن الاعتراف الغربي أكثر من التغيير الداخلي، ومرة حين عجز عن تطوير خطابٍ وجدانيٍّ يستوعب البسطاء بدل أن يحتقر وعيهم.
والعلمانيون العرب، الذين حلموا بتحرير الإنسان من سطوة رجال الدين، سقطوا في نرجسية النخبة، فأصبحوا نسخة معكوسة من خصومهم: يملكون اليقين ذاته، لكن بلغة مغايرة.

في المقابل، كان تجار الدين أكثر دهاءً.
عرفوا أن الجمهور لا يبحث عن الحقيقة، بل عن يقينٍ يُسكِّن الخوف.
وأن السلطة لا تخاف المتدينين، بل تستثمر فيهم.
فكانت المعادلة بسيطة:
رجل الدين يمنح السلطة الشرعية، والسلطة تمنحه المنبر.
أما المثقف، فكان دائمًا بلا منبر، بلا حماية، بلا جمهور.

لقد فشلنا لأننا لم ندرك أن العقل وحده لا يصنع ثورة، وأن الوعي لا يُفرض من فوق.
فكرّسنا قطيعة لغوية ونفسية مع العامة.
تحدثنا عنهم أكثر مما تحدثنا إليهم.
كتبنا عن الحرية بلغة لا يفهمها من لم يتذوقها يومًا.
فكان من الطبيعي أن يذهبوا إلى من يفهم وجعهم، حتى وإن باعهم الوهم بثمنٍ بخس.

إن الهزيمة ليست أن يربح الجهلة المعركة، بل أن نُسَلِّم لهم الساحة مختارين، متذرعين بأن “الناس لا تفهم”.
الناس تفهم أكثر مما نظن، لكنها تختار من يمنحها الأمل لا الملامة، الدفء لا الدرس، الخطاب الذي يُشعرها بالانتماء لا بالذنب.

لقد فشل اليسار والعلمانيون العرب لأنهم أرادوا تغيير العالم دون أن يلامسوا طينه.
تحدثوا عن الحرية في زمنٍ يبحث فيه الناس عن الخبز، وعن العدالة في واقعٍ تُوزَّع فيه النعمة بالواسطة، وعن الإنسان بينما يُهان الإنسان كل يوم باسم الأمن أو الدين.

إن أولى خطوات استعادة العامة ليست في كُتبنا ولا في شعاراتنا، بل في العودة إليهم بلا وصاية ولا خوف.
في أن نتعلم الإصغاء قبل أن نتكلم، وأن نُعيد الاعتبار للبساطة، للغة الشارع، لأسئلة الناس الصغيرة التي هي في جوهرها أعقد من كل النظريات.

حين نفعل ذلك، لن نحتاج أن نُقنع الناس بأننا على حق.
سيعرفون وحدهم أن من يحترم عقولهم لا يمكن أن يكون عدوهم،
وأن الدين الذي يُستخدم لتخديرهم، والعلمانية التي تُقال لتبكيتهم، كلاهما باطل إن لم يخدم كرامتهم أولًا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!