سؤال يبدو بسيطًا، لكنه مثل باب يفتح على غرف كثيرة. ليس لأن الفكرة ضعيفة أو ضائعة، بل لأن الطريق الذي تمشي فيه مليء بالحفر واللافتات المضلِّلة والوجوه التي تبتسم ثم تطعن من الخلف.
المأزق ليس داخل النسوية بقدر ما هو حولها:
دولة تريد نسوية “نظيفة وهادئة ومطيعة”،ومتشددون يريدونها “غاضبة وفوضوية لتبدو وحشًا”،
وبعض الأصوات التي تدّعي الدفاع عنها فتربكها أكثر مما تخدمها.
بهذا الاشتباك تصبح النسوية محاصَرة، لا لأنها بلا مشروع،
بل لأن من حولها يتلاعبون بالصورة.
السلطة، في أغلب منطقتنا، تعرف جيدًا كيف تتعامل مع أي فكرة قد تهزّ قواعدها. تفتح للنساء شاشات وبرامج واحتفالات، وتتكلم عن “التمكين” و“المساواة” و“قصص النجاح الملهمة”.
لكن حين يأتي الحديث الجدّي—الميراث، قوانين الأسرة، جسد المرأة، الولاية، العنف، الهيمنة الدينية، توزيع الثروة—تبدأ الأبواب تُغلق. وتخرج العبارات الجاهزة:
“ليس الآن، هذه ثوابت، هذا تهديد للأسرة.”
هكذا تُحوَّل النسوية من حركة تطالب بحقوق مواطنة إلى صورة دعائية: امرأة ناجحة تُصفِّف شعرها وتتحدث بابتسامة عن “تطوير الذات” بينما تبقى القوانين التي تتحكم في حياتها كما هي.
على الضفة الأخرى، هناك التيارات المتشددة. هؤلاء لا يخافون فقط من النسوية الجادة، بل يخافون منها كثيرًا، لذلك يحاولون تشويهها.
كيف؟ببساطة: لأنهم يبحثون عن الصوت الأكثر غضبًا وفوضوية،
الأقل معرفة،الأكثر انفعالًا،
ثم يرفعونه إلى أعلى المنابر ويقولون:“هذه هي النسوية!”
وبالطبع، الصورة تصبح مخيفة.
امرأة تصرخ دون حجة، تقتبس معلومات مشتتة من الإنترنت،
تبدو وكأنها تريد حربًا مع الرجال.
في هذه اللحظة يصبح من السهل إقناع الناس بأن النسوية “فوضى” أو “كراهية الرجال”،
مع أنها في حقيقتها مشروع مواطنة وعدالة، لا مشروع خصومة بين رجل وامرأة.
لكن الأزمة ليست كلها من الخارج.
هناك ارتباك داخل المشهد النسوي نفسه. بعض من يتحدثون باسم النسوية—بنية أو دون قصد—يختصرونها في تجاربهم الشخصية فقط.
والتجربة مهمة طبعًا، لكنها ليست الحركة كلها.
حين تصبح النسوية مجرد “أنا عانيت.. أنا أطالب” تفقد بعدها الجماعي. تصبح معركة فرد ضد فرد، لا مواطن ضد بنية.
الحركة النسوية في أصلها تقول:
لننظر إلى النظام كله:
القوانين، الدين، الإعلام، التربية، سوق العمل، اللغة، الثقافة.
أين يقيم الظلم؟ ومن المستفيد؟ وكيف نغيّر ذلك معًا؟
أما حين نختصرها في معارك صغيرة، أو في صراخ بلا مسار،
تبدو الحركة بلا عمود فقري،
من السهل كسرها أو السخريةمنها.
الإعلام يزيد الطين بلة. فالمنصات تحب “الترند”،
لا ما هو معقّد أو يحتاج وقتًا لفهمه. تفضّل صوتًا عاليًا، لا حجة متماسكة.
ومن السهل أن يتحول الغضب،
وهو شعور أخلاقي مشروع،
إلى محتوى بلا رؤية. الغضب بداية مهمة، لكن إذا لم يتحوّل إلى معرفة واقتراحات وحلول،
سيبقى مجرد نار تضيء لحظة ثم تخبو، ويظل العالم كما هو.
هل النسوية إذن في مأزق؟
نعم… لأن البيئة حولها تضغط عليها: تُجمّلها حين تريد السيطرة عليها، وتشيطنها حين تريد التخلص منها، وتتركها تتخبط حين تتجاهلها.
لكن لا…
ليست في مأزق كما يتمنى خصومها. لأن وجودها مرتبط بوجود الظلم. ما دام الظلم قائمًا ستعود النسوية كل مرة،
بأسماء ووجوه جديدة، ومسارات أعمق.
الأفكار التي تنطلق من ألم حقيقي لا تنتهي بانتهاء موجة أو صرعة.
الطريق للخروج من هذا المأزق لا يحتاج معجزة، بل وضوحًا.
أن تتحول النسوية من رد فعل إلى فعل. من شعار إلى خطة.
من قصص فردية إلى مشروع جماعي.
أن نعرف ما الذي نريد تغييره بالضبط:
القانون؟
التعليم؟
سوق العمل؟
النظام الديني؟
الخطاب العام؟
وأن ننتبه لشيء مهم:
لا يكفي أن نقول “حقوق للمرأة”.
بل يجب أن نربط ذلك بالناس كلهم:
بالعدالة،
بالاقتصاد،
بالأمان،
بحق العيش بكرامة.
حين تتحدث النسوية لغة الناس
ولا تفقد عمقها، بل تصبح أقوى.
وحين تبني مؤسسات لا أصواتًا فردية فقط، تصبح أصلب.
لأن إسكات شخص ممكن،
أما إسكات مؤسسة فمهمة صعبة.
إذن…
النسوية ليست هي التي تائهة.
بل نحن في بيئة تحاول تشويهها من كل جهة.
لكن السؤال الأهم ليس: هل ستبقى النسوية؟
بل: أي نسوية ستبقى؟
النسخة المنفعلة التي تصرخ ثم تختفي؟ أم النسخة التي تعرف ماذا تريد وتبني طريقًا طويلًا مهما كان بطيئًا؟
المستقبل من دون شك يخص الثانية. تلك التي تفهم أن المعركة ليست مع الرجال،
بل مع نظام يرى المرأة مواطنة منقوصة. وأن هذا النظام لا يسقط بالصراخ وحده، ولا ينهزم بأن نصير نسخة ناعمة ومطيعة.
بل ينهزم حين نفهمه جيدًا،
ونواجهه بوعي، وبتحالفات، وبخطط، وبإصرار طويل النفس.
هذه هي النسوية التي لا تقع في المأزق…
بل تُخرجنا منه.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية