المرأة لا تهدم… بل تقول: كفى/ بقلم: الشاعرة فابيولا بدوي

هل تريد المرأة أن تعيد بناء المجتمع بصورة عادلة، أم أن هدفها هو الهدم؟
السؤال في ظاهره بسيط، لكنه يكشف خوفًا عتيقًا يسكن الوعي العام. فالمرأة، حين تطالب بحقوقها، لا تسعى إلى إحراق البيت، بل إلى تهويته من الدخان المتراكم عبر قرون. هي لا تريد إسقاط المجتمع، بل إسقاط ما شوّه المجتمع؛ لا تهدم الجذع، بل السوس الذي نخره.

منذ بداية التاريخ، لم تطلب النساء امتيازًا إضافيًا بقدر ما طلبن مساحة عادلة ليكنّ بشرًا من الدرجة الأولى. التعليم، العمل، حرية الاختيار، الأمان… هذه ليست طموحات خارقة، بل شروط حياة طبيعية. إن من يصف هذه المطالب بالهدم، إنما يدافع عن امتيازاته الخاصة لا عن المجتمع. لأن المجتمع الحقيقي لا يُبنى بإسكات نصفه، بل بإشراكه.

ولذلك، فإن السؤال الحقيقي ليس: “ما الذي تريده المرأة؟”
بل: “ما الذي يخشاه البعض من عدالة تُمنح للمرأة؟”

على الجانب الآخر، تُتهم النسوية بأنها حركة عداء للرجال. لكن العدو الذي تواجهه النسوية ليس الرجل، بل نظام كامل قامت هندسته على تفضيل جنس على آخر، وعلى تجريد النساء من تعريف أنفسهن. النسوية ليست مشروع انتقام ولا تسعى لتعويض ظلم بظلم، بل لإزالة فكرة أن الإنسان يُعرَّف من خلال جنسه لا من خلال كفاءته وحريته.

ثم إن النظام الأبوي لا يؤذي النساء وحدهن. هو يسحق الرجال بطرق أخرى: حين يُفرض على الرجل أن يكون قويًا مهما انكسر، ومعيلًا مهما تعب، وصامتًا مهما تألم. حين يُجرد من حقه في الضعف، والدمع، والتعبير. النسوية، حين تطلب المساواة، فهي تحرر الاثنين معًا من قفص واحد ببابين مختلفين. ما يدافع عنه بعض الرجال على أنه حماية لسلطتهم، هو في الحقيقة سجن لهم قبل غيرهم.

لكن تبقى النسوية الراديكالية، وهي إحدى فروع الحركة النسوية، موضع جدل في مجتمعات يغلفها الجهل ويتحكم فيها الخطاب الديني والسياسي. الراديكالية لا تهدف إلى تجميل الواقع، بل إلى اقتلاع جذوره. هي تُعيد النظر في اللغة، والتاريخ، والدين، والعائلة باعتبارها مؤسسات دعمت اللامساواة. هذا النوع من التفكير ضروري لفهم أصل المشكلة، لكنه لا يصل بسهولة إلى مجتمع يرى في أي مساءلة لسلطاته تهديدًا وجوديًا. لذلك، قد تتحول الفكرة الجذرية إلى صدمة، والصدمة إلى رفض، والرفض إلى عنف.

هنا يبدأ المشهد في التعقيد:
فالسلطة، سواء كانت سياسية أو دينية، تعرف جيدًا كيف تستغل الغضب.
حين يخرج صوت نسوي غاضب ضد ظلم حقيقي، تبادر السلطة — ومعها رجال الدين وحَمَلة الامتياز — إلى تضخيم هذا الصوت وتشويهه، حتى يبدو كأنه إعلان حرب على الرجال وعلى المجتمع. لا لأنها تخشى الصوت نفسه، بل لأنها تخشى أن يستيقظ الناس. فتُحوِّل قضية العدالة إلى معركة أخلاقية، وتُهندس خطابًا يقول:
“انظروا، إنهن يردن هدم الأسرة والدين!”
وبذلك تُفرغ المطالب من معناها، وتحوّل النقاش من “كيف نحقق العدالة؟” إلى “كيف نحمي أنفسنا من هؤلاء؟”

هنا لا تُقاتَل النسوية وحدها، بل تُضرب المنظومة الحقوقية بأكملها. الهدف ليس إيقاف الغاضبات، بل إيقاف أي إمكانية للتغيير. فتصبح الأصوات الغاضبة وقودًا يخدم خصومها:
يطلقونه في وجه المجتمع فيفزع وينفر، بينما يبقون هم في مواقعهم، متحصنين بخطاب ديني وسياسي يبرر استمرار الوضع كما هو.

بهذه الطريقة تُختَزل النسوية الراديكالية — بل النسوية كلها — في صورة الشيطان. بينما الحقيقة أن الحركة النسوية بشر بأفكار مختلفة، اتفقوا على شيء واحد: أن لا يُعامل الإنسان بصفته تابعًا. وأن العدالة لا تُمنح، بل تُنتزع.

القضية ليست صراعًا بين المرأة والرجل، بل بين مجتمع يريد أن يتنفس، وسلطة اعتادت احتكار الهواء.
وما دامت العدالة تُرى تهديدًا، سيبقى كل إصلاح يُقدَّم باعتباره هدمًا، وسيبقى كل صوت غاضب يُستخدم لإسكات آلاف الأصوات المتزنة التي لا يُسمح لها بالوصول.

في النهاية، المرأة لا تطلب هدم المجتمع، بل تحريره.
والنسوية ليست ضد الرجال، بل ضد الظلم.
أما الراديكالية فهي مرآة تكشف الجرح، لا بالضرورة الدواء.
ويبقى الخطر الأكبر في أن تتحالف السلطة ورجال الدين على شيطنة المطالب وتحويل الغضب إلى فزاعة، حتى يُصدّق الناس أن العدالة خطر، وأن المساواة مؤامرة.

لكن الحقيقة أبسط من كل ذلك:
لا ينهض مجتمع بنصف مكبّل ونصف مشوَّه.
ولا تستقيم حياةٌ تُبنى على خوف طرف من حرية الطرف الآخر
فالعدل لا يهدم،
إنما يُعيد البناء من حيث يجب أن يبدأ:
من الإنسان

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!