بقلم: الكاتبة عائشة أبو ليل.( فلسطين )
في غزة، لا يتنفس الهواء، بل يختنق. حتى الريح هناك، تمرُّ حافيةً على جراحٍ لم تندمل منذ بدء الخليقة. كل حجر في غزة له ذاكرة، وكل نافذة مهدّمة تروي قصة بيتٍ كان، وصوتًا كان يملأ الفضاء ذات صباحٍ قبل أن تتحول السماء إلى قنابل. من تحت الركام، تولد اللغة من جديد، لا لتبوح بما جرى، بل لتسائل العالم: أيُّ معنى للعودة حين لا يبقى للبيت أثرٌ سوى مفتاحٍ مهشَّم؟
في قصته “رُكام العودة: مفتاح الهاوية”، يكتب حسين بن قرين درمشاكي من مساحةٍ تتجاوز الجغرافيا لتلامس جوهر الوجود الإنساني حين يُسحق تحت عجلة الحرب. نصه ليس وصفًا لما جرى، بل هو احتكاك مباشر بالعدم. إنه نصٌّ يصرخ دون صوت، يزرع في القارئ يقظةً قاسية: أنّ الخراب ليس نهاية المكان فحسب، بل اختبارٌ لجوهر الإنسان حين يُجَرَّد من معنى الأمان.
يوسف، بطل القصة، ليس مجرد عائد إلى غزة؛ إنه عائدٌ إلى هاويته الخاصة. يحمل كفّ ابنته الصغيرة نور، ويقودها عبر برزخٍ من رمادٍ وصمت، يبحث عن بيتٍ لم يعد موجودًا إلا في الذاكرة. كل خطوةٍ له هي طقوس وداعٍ متأخرة للحياة. وحين يجد “المفتاح النحاسي” في الحطام، لا يجد فيه خلاصًا، بل يكتشف أنه الشاهد الوحيد على العدم، رمزٌ لتاريخٍ انتهى دون أن يُكتب.
تلك اللحظة التي يكسر فيها يوسف المفتاح بين أصابعه، ليست انكسارًا، بل انعتاقًا من عبودية الرمز. لقد ألغى فكرة “العودة” بوصفها رجوعًا إلى الماضي، وحوّلها إلى فعل تأسيسٍ جديد. فالعودة الحقيقية لا تكون إلى البيوت، بل إلى الوعي. حين يضع الحجر الأبيض في يد ابنته ويقول لها: “هذا هو إظهار العودة”، يعلن ميلاد لغةٍ جديدة لا تحتاج إلى مفاتيح.
الكاتب هنا لا يروي مأساة غزة كمجرد واقعة سياسية أو مشهدٍ إنساني، بل كجسدٍ كوني يتنفس من رمادنا جميعًا. لغته تنحت الصور كما لو كانت نُقوشًا على حجر الذاكرة، تتجاوز الألم لتصنع من الركام بيانًا فلسفيًا عن معنى البقاء. كل جملة في النص تمشي على الحافة بين الشعر والتاريخ، بين الطفولة والموت، بين الحنين والانبعاث.
في “رُكام العودة”، تتحول الرمزية الفلسطينية إلى تأملٍ كونيٍّ في ماهية الفقد. يوسف، في جوهره، هو الإنسان الحديث الذي اكتشف أن مفاتيح الأبواب القديمة لم تعد تفتح شيئًا، وأن العالم نفسه صار أطلالًا تبحث عن معنى جديد للحياة. حين ينكسر المفتاح، يبدأ البناء. حين يُلغى الأثر، تنبت الإرادة.
إنها قصة تُكتَب بالرماد وتُقرأ بالدمع. تذكّرنا أن غزة ليست مجرد مكانٍ على الخريطة، بل هي المعنى الأخير للإنسان حين يواجه الفناء ويصرّ على أن يكون. فالمفتاح الذي انكسر في يد يوسف لم يعلن النهاية، بل دشّن بدايةً أخرى: بداية الوعي بأن الأمل لا يسكن الأبواب، بل الحجارة التي نرفعها من تحت الركام، لنبني بها لغة العودة من جديد.
تحية للكاتب حسين بن قرين درمشاكي يكتب من جوف الألم الانساني بلغة تفيض بالوعي والجمال . يلتقط من تحت الرماد جوهر الإنسان لاصورته ..في هذا النص تتحول الكلمة إلى شاهد على النور وسط الهاوية ، فيغدو الأدب فعل مقاومة روحية ضد الفناء .
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية