الكتابة احتفاء مطلق بالمكان / بقلم : لشاعر صابر العبسي العبسي

لست ادري من سوء او من حسن حظي اني لم الج بكارة متاه هذا الوجود منتميا الى عائلة لها الوجاهة العلمية والابهة الاجتماعية ولم تنفتح عيناي الشاسعتان بسوادهما الخلبي على اي كتاب اورفّ خشبي ينوء بحمل المعاجم والقواميس وامهات الكتب التراثية الدينية ولم اولد في مكتبة الجد ولم انشا تحت برنسه الصوفي كما جرت العادة وفق سير الكتاب والشعراء والفنانين العظام … كان كتابي الاوحد والوحيد الذي حباني به الرب هو البستان الذي كنا نسكنه وابي ما انفك يفلحه ذلك البستان الزاخر بشجيرات المندرين والبرتقال والخوخ والتفاح والكروم والمبرقش كسجادة باحواض الفلافل والكزبرة الرؤوم والنعنع الغض كانت كل عناصره غارقة في الخضرة حد الثمالة متقدة به مما اورثتني تلك الخضرة الناهشة لب الناظر رغبة جامحة ومسعورة ومحمومة في التعلق بالكتابة منهج حياة وسبيل خلاص وطوق نجاة من كل ملمّات التيه من فقد ولوعة وحرمان حتى اني الى حد هذه اللحظة لست اخربش او اخط حرفا او نصا ما اسعى الى ترويضه او سله من عدم الا بالحبر الاخضر في تلك الاعوام الهاربة كالغزلان شاردة والمتبخرة كفقاعات صابون اعوام طفولاتي الاولى تلك الضاربة بكامل حدة اوتادها في دخيلتي لم اعرف من الكتب الا الطبيعة بشتى تلاوينها وعناصرها مرمية ومحزومة في بستان كان ذلك كتابي العظيم الذي لم ينجز الله بديلا غيره اثباتا لعظمته وقدرته على الخلق والابداع من خلاله اكتشفت العالم الذي ظل لثلاثة عقود كذلك مسيجا وضيقا حتى وان اوهمنا بالرحابة والتعدد والتنوع والوفرة بل على العكس تماما مازلت اؤمن ان ذلك البستان الذي نشات فيه وتعفرت باتربته ونباتاته الهشة ارحب من العالم الذي ينتمي اليه باعتباره لم يزل في مخيلتي البكر اشد يناعة ونضارة وطمانينة وسلما وبعد ان ارتحلنا وهاجرناه مرغمين او مطرودين من فردوسنا الذي لايملكه الا احد الاقطاعيين في ثمانينيات القرن الماضي لم استطع طبعا طيه في محفظتي او في صرة الام .. لم استطع طبعا ان اضعه تحت ابطي او فوق ظهري لاحمله اينما سنرحل لحظتها فقط ادركت ان لابد لي من حيلة تحقق رغبتي في ان اجمع بستانا بكامله يظل رهن يدي وحواسي فاكتشفت فيما بعد ان االكتابة وحدها قادرة ان تختزل الصحراء حبة رمل والبحر قطرة ماء واكتشفت ان الكتابة ليست ترفا او تسلية بقدرما هي ضرورة لايمكن الاستغناء عنها …انها شبيهة تماما كالهواء والماء والاطعمة والاغطية … ومن لحظتها الى الان ما احاول كتابته بالضبط هو ان اضع ذلك البستان بكامل ازاهيره وفراشاته ونباتاته واشجاره بين دفتي كتاب لكن شعور دائم بعدم الرضا والغبن ان ما اسعى الى تحقيقه يظل خارج قبضة اليد … انصتوا انصتوا معي ثمة من يصعد الدرجات كل ليل الى غرفتي لم يكن شبحا ولا رجل بوليس بمعطفه الطويل ومسدسه الاسود بل البستان نفسه يهجم علي مقتحما حجرتي فاذ هي الجدران احجاره والخزانة والسرير والرف والمنضدة والكرسي اشجاره والمراة بئره العميقة التي يعشش في شقوقها اليمام والبوم وفيما الوسائد والاغطية والملابس والستائر والملابس كلها ماشيته هكذا اذن تكتبنا الامكنة اكثر مما نتوهم كتابتها ومانحن في الحقيقة لانسعى عبر الكتابة الا لاستعادة الفردوس الاولي الرحمي ذاك المشتهى المفقود ويظل في هذا الخضم من الالم والفقد ذلك البستان اعظم كتاب قراته في حياتي ولم افك بعد شيفرات اسراره الكثيفة كالاحجية

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!