بقلم عبد الهادي موادي / المغرب
حلم مدينة موعودة يملأ حديث الساكنة، وواقع قرية يستسلم أمام الحقيقة. سيدي الطيبي جماعة عائمة بين الرباط وسلا والقنيطرة، خجولة مثل سلحفاة ضاعت في البر فلم تعد تعرف للبحر من طريق.
الواقع يغِير على كل شيء، وكل محاولة الخطو إلى الأمام تموت قبل أن تصل إلى الأرض، الوطن لم يترك المجال للحلم، والقرية لم تنجب أيادٍ أمينة تدافع عنها متى داهمها الأعداء، فقط بعض كسالى يتحدثون من وراء حجاب، في عالم أزرق لا يمثل الحقيقة، يقولون بألسنتهم ما لا تهوى قلوبهم.
عازم على طَرْق أبواب مدينة الوهم التي يحلم بها الأطفال الصغار، وفتح بعض ملفات طواها النسيان، لكنني خائف أن أضيع هناك في اللاَّحقيقة. ما أعرفه يحز الخاطر، القرية بلغ عدد سكانها في آخر إحصاء 53000نسمة، والحقيقة إن العدد قد ازداد بشكل مهول، لست خائفا من هذا الارتفاع الكبير للسكان بقدر ما أتساءل: أين المرافق الاجتماعية؟ أين شروط الحياة؟ لماذا كل هذا الفقر والهشاشة والجهل، وهذا الكذب المعلق على شفتي كل رئيس جاء ليتولى أمورنا. مستقبل القرية على حافة توبقال يرفعه ذلك الحاكم المخلص، ذلك الذي اعتقد أن بإمكانه أن يغَيِّر مصير القرون الأولى، فتاه وسط التيهان، يتصيد المصائد ويعاود مرددات الرئيس الكبير، مثل: الشفافية، الديمقراطية، الإصلاح، الاهتمام بالشباب والتعليم للجميع؛ سياسي تشرب ماء الفلاسفة فانصهر بكلماته وبمعاول الحطابين، يحطب كل نقطة أمل زرعها الأطفال الصغار.
التغيير يحتاج عقول القردة، والسياسة تحوزها العقول الفارغة، القرية تغوص وسط المتمردين دون أن تدري، لذلك تبتسم في وجه قطاع طرق متبجِّحِين خانوا ثقة أناس أبرياء، انتظروا، وما زالوا ينتظرون بعض مشاريع هنا أو هناك.
عازم مثل سقراط أن أحاكم الحقيقة، وأفتح باب البهو لكي أكون أول من يعانق الأطفال العائدين من السوق، أطفال ساقهم التفقير الذي يتربص بنا إلى طرق أبواب العمل، فتركوا الدراسة ولبَّو نداء الإعانة الإعانة، فكبروا في صغرهم وكهِلوا في شبابهم.
الجمال هنا انقضى، يوم دخلت بعض آلات شوهت وجه القرية فاقتلعت الأشجار ورست خطوطا قيل لنا إنها الطريق التي تؤدي إلى المدار الحضري.
الفقر، الهشاشة، الجهل، ومخلفات المطر وغيرها أشياء تبرر تآكل المكان وتصنفه ضمن ما سماه النقاد بـ “القاع الاجتماعي“؛ الانكماش والغيبة والنميمة أخلاق لا حدود لها هنا تحضر متى اجتمع اثنان على حديث.
الناس هنا ليسوا مُمْترين فهم يسرُّون شكاويهم وينتفضون فقط أمام أجسادهم الواهِيَّة، تلك الأجساد التي صادقت الفقر فانغمست منكسرة عن نفسها تردد أحلاما تاويَّة في شمس آفلة.
الطريق معبد بالأحجار الكريمة، ومع كل مطر تنتفض الأحجار هاربة خوفا أن تنكشف الحقيقة. عاجز عن الوصف أكتب دون أن أرى أي مسار يتخذه القلم، فأجدني طريح أشياء من الحلم تراودني مثلما تراود ساكنة المكان. ما أثارني أسرب طيور كانت تعشعش على مقربة من مبنى كبير فوق أشجار الأكالبتوس، كنت أرى في وجهها الكآبة، كانت تفلي القمل العالق على رؤس الأبقار، وتهاجم فضلات الخضر المرمية على جانب الطرقات، وفي كثير من الأحيان أراها تحث الباعة بكلماتها العذبة على العناية بالمكان، لكن بواقعيتها كانت خير من يمثل الحقيقة، اللامبالاة والفوضى التي تعم القرية.
السوق يفتح مرة في الأسبوع، فيجمع الناس من كل أنحاء القرية، بل يأتيه بعض سكان المدن المجاورة، بعض ممن يجدونه ملاذا لانخفاض الأسعار؛ حين ترتفع صيحات الباعة ينتفض المتسولون، كما ينتفض شباب كالسيف يهاجمون الأكواخ رغبة في ملء أكياسهم بالخضر والفواكه، الحال يتكرر في كل سبت، والكل يرى مثل هذه الأشياء ولا أحد يحرك ساكنا.
حيث السذاجة تحاصر هذا المكان الأكْمَه، ينتفض الفقر مثل محارب قديم يردد نفسه على أزقة القرية، يعاود وقائع الأزمة.
البطالة تجذب الشباب وتسافر بهم عبر أمواج الموت حيث الخلود، حيث الملاذ الحقيقي.
الشباب ألفوا بعضهم، واشتركوا في الحلوة والمرة، فشربوا من نفس علبة السجائر التي يبيعها تاجر القرية. الحال توضع فوقه وبجانبه علامات استفهام والكل هنا ينتظر الحل، لكنه لن يأتي، ما دمنا نضع اليمنى فوق اليسرى متربصين بالأمكنة نتحدث عن عالم الخونة وفقدان الثقة.
الأغنام والأبقار، الحمير والبغال بلا حياء ودون خوف تعَمِّر طرقات القرية، تضع روثها أينما شاءت ومتى شاءت، تخترق النظام غير أبهة، تأكل وتسرح بلا مبالاة.
موسم البناء ساخن، والرمال ما تزال تقطع الطريق المؤدي إلى البحر دون أن تكَلَّ، والطمع يسري في المقامات دون اكتراث. الأسلاك مثل خيوط العنكبوت تمتد في الفضاء من اللاَّمكان إلى اللاَّمنتهى، لكن في الحقيقة هي موصلات الإنارة، بل موصلات الموت كما أراها.
المشهد من الأعلى يحز في النفس، الفوضى تهِيم في كل مكان، الذباب في كل يوم ينشر آلاف الجراثيم بين الناس، فيموت، لكن جراثيمه تظل تنتقل من شخص لآخر؛ الملائكة تغادر المكان بلا عودة، والشياطين أسياد المواقف. الخريف هو الفصل الوحيد الذي يأتي دون إنذار، يمخر الأجساد ويقصف الأشجار ثم يعود.
يساورني إحساس أنها النهاية، هاته القرية ستندحر من الأعلى، لكنني قلق على سيزيف فيداه ما تزالا تلوحان من بعيد طلبا في الخلاص.
مقال رائع جدا وصف دقيق لما تعانيه ساكنة الهامش
والاروع هي الكلمات التي تخفي من ورائها معانات وأحيانا تسيل بالبكاء والانين ولا تكترت لوظيفتها الجمالية سوى التعبير عن الواقع المزري .
حقا وفيت وأجازة وعبرت عن ما لا نستطيع صياغته في قالب أدبي لكن نبراتنا ومحيانا يلخص كل شيء ولا يسعنا إلا أن نقول ونتسائل عن من باع الوطن ؟؟؟ رغم علمنا بأننا نحن من دفع ثمن الوطن.