بين الضّياع والأمل في قصيدة “إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا” للشّاعرة آمال عوّاد رضوان

 

بقلم الناقد: عبد المجيد اطميزة

أولا: النّصّ الأدبيّ

إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا/ آمال عوّاد رضوان

وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ

يَمْلؤُها خَواءٌ

يَ تَ سَ ا كَ بُ

يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء

وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ .. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً

تَتشاسَعُ…

أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ .. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ

وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ

مُتَماهِيًا بِي .. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!

*

دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء

يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء

يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا

يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ

يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ

يَ تَ هَـ جَّ ى .. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!

*

كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ

ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟!

أَمْضي إِلَيْكِ ضارِعًا

تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي

أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ

أَتَوَكَّأُ عَلى .. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء

أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟

أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟

*

مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ

نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ

يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي

يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ

ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ

مَن ذا الأَباحَكِ بي؟

يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم

تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي

تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني

تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ

وَفي خِلوَةِ سُهْدِي .. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ

عَلى عَتَباتِ مَراياكِ!

*

دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!

أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي

تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ

وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي

أَيا ريشَةَ شعريّ الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!

مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب

وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ

والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟

*

كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ

إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟

كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ

تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟

*

أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!

أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ

كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ

تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ

تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ

فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني

ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني

علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي

ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ .. عَلى جَبيني!

*

كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري

حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ

وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ

بُشْرَى مَسَرَّةٍ

حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ

تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي

لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!

*

مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ

حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ

حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها .. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ

تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ

حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي

تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً

وَ أَ تَ فَ تَّ تُ .. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ

*

أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى

حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ

في فِخاخِ الانْتِظار

وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ .. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا

تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي

تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً

تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني

هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ .. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ

لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!

رُحْمَاكِ

هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ

لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!

أَدْمَعُ!.. و.. أَدْمَعُ!.. وَ.. أَدْمَعُ!

مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!

مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!

هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا

إعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ / كِرازةَ لِقاءٍ

عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ

عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ .. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!

 

ثانيًا: التّحليل الأدبيّ

العنوان: ” إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا”: من ديوانها الشّعريّ الثاني “سلامي لك مطرا.” وكأنّ الشّاعرةَ تُخاطبُ نَفسَها، أو نفسَها المنصهرةَ في وطنِها، وهي تشعرُ بضَياع الآمالِ، في وقتٍ تكالبَتْ عليهِ المِحنُ وصنوفُ الضّياع، فالغمامُ رمزٌ عن الضّبابيّةِ والغموضِ والحيرةِ والقلقِ والتّيهِ والضّياع،  وفي العنوانِ انزياحٌ تركيبيّ، حيثُ تقدّمتْ شبهُ الجملة “إليك”، وحقُّها التّأخير كلّ  مِن الفعل والفاعل “أتوب” وحقّهُما التّقديم، ويوجدُ في العنوانِ أيضًا انزياحٌ إضافيّ،  فعندما يسمعُ المُتلقّي كلمةَ “أتوب”، يتوقّع أن يليها حال مثل كلمة “مستغفرًا”، لكنّه يُفاجأ ويَسمعُ عبارةَ “غمامًا”، وهذا يُثيرُ في خلدِهِ الدّهشة.

 

والشّاعرةُ اختارتْ عنوانَ قصيدتِها بدقّةٍ، و”يُعتبرُ العنوانُ في نظريّاتِ النّصِّ الحديثةِ عتبةً قرائيّةً، وعنصرًا مِنَ العناصرِ المُوازيةِ الّتي تُسهمُ في تلقّي النّصوصِ وفهْمِها، وتأويلِها داخل فعلٍ قرائيّ شموليّ بفعلِ العلاقاتِ الكائنةِ والممكنةِ بينَهُما. وهو عندَ جيرار جنيت مجموعةٌ مِن العلاقاتِ اللّسانيّة الّتي يمكنُ أن توضَعَ على رأس النّصّ، لتُحدّدَهُ وتَدلَّ على محتواهُ، لإغراءِ الجمهورِ المقصودِ بقراءتِهِ، ويُحدّدُ العنوانُ هُويّةَ النّصّ ويُشيرُ إلى مَضمونِهِ، كما يُغري القرَّاءَ بالاطّلاع عليه.. على أنّ وظيفةَ التّحديد تَظلُّ هي الأهمُّ مِن غيرِها، فالعنوانُ المثيرُ قد لا يربطُهُ بما يُعنونُ أيّ رابط. كما أنّ العلاقةَ بينَ مادّة العنوانِ وموادّ النّصّ ليست دائمًا مِرْآويّة، بحيثُ يكشفُ ظاهرُ العنوانِ بَواطنَ الكتاب، إذ مِن الممكنِ أن نجدَ عناوينَ فارغةً أو دالّةً على الشّكل، أكثرَ ممّا تدلُّ على المَضمون، لذلك؛ فالعنوانُ باعتبارِهِ اسمًا للكتاب، أهمُّ مُحدِّدٍ ومُميّزٍ له عن هُويّات أخرى، وإن كنّا نجدُ بعضَ العناوينِ مَبنيّةً بطريقةٍ رمزيّة أو مَجازيّة، ممّا يدفعُنا للتّأويل، لإيجادِ ألوان مِن التّطابق أو شِبهِ التّطابقِ بينَ النّصّ وعنوانِهِ، خاصّةً في الكتبِ ذاتِ الطّبيعة النّظريّةِ أو الفكريّة. أمّا عناوينُ الدّواوينِ الشّعريّةِ والرّواياتِ والقصصِ والمَقالاتِ -الحديثة على الخصوص- فهي تقومُ في أغلب الأحيانِ على المُراوغةِ والإيحاء.”

 

ويختصرُ جنيت “أهَمُّ وظائفِ العنوان في: وظيفةِ التّحديدِ والوظيفةِ الوصفيّةِ والوظيفةِ الإيحائيّةِ والوظيفةِ الإثاريّةِ- الإغرائيّة. وكما هو واضحٌ، فهذهِ الوظائفُ تضمّنتْها الاستعمالاتُ الدّلاليّةُ المختلفةُ لكلمةِ العنوان في الثّقافةِ العربيّة”.

وفي مَجالِ الحديثِ عن العنوان في اللّغةِ والاصطلاحِ في العربيّة قال بازي “العنوانُ.. إظهارٌ خفيٌّ ورسمٌ للمادّةِ المكتوبة. إنّهُ توسيمٌ وإظهارٌ، فالكتابُ يُخفي مُحتواهُ ولا يُفصحُ عنه، ثمّ يأتي العنوانُ ليُظهرَ أسرارَهُ، ويَكشفَ العناصرَ المُوسّعةَ الخفيّةَ أو الظّاهرةَ بشكلٍ مُختزلٍ ومُوجز”.(1)

في المَقطعِ الأوّلِ تقولُ: “وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ.. يَمْلؤُها خَواءٌ/ يَ تَ سَ ا كَ بُ/ يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء/ وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ.. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً/ تَتشاسَعُ/ أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ.. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي.. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!”

“إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا”: كنايةً عن ضبابيّةِ الوطنِ ومصيرِهِ، ومُراوحتِهِ بينَ التّيه والضّياع وبينَ بصيصِ أمل.

“وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ.. يَمْلؤُها خَواءٌ”: كنايةً عن روح الشّاعرة وسِني عمرِها الضّائعةِ بضياعِ الوطن، وتُركّزُ الشّاعرةُ على الزّمانِ المُتمثّلِ في الفصولِ والوقتِ، كما أنّها تُركّزُ على المكانِ وهو الرّوحُ والوطن، وتتوالى الانزياحاتُ بمختلفِ صُنوفِها، فقد أَسندتِ الشّاعرةُ وقتَها للفصولِ، والفصولُ وعرةٌ كما الجبالِ، والوقتُ أرعنُ مجنونٌ كجنونِ المجانين.

هي صورٌ فنّيّة و”الصّورة الشّعريّة كيان فنّيّ نابض بالحياة الإنسانيّة”. (2)

“يَ تَ سَ ا كَ بُ”:

وهنا تلجأُ الشّاعرةُ لتقطيع حروفِ الكلمة، لخلقِ نمطٍ إيقاعيّ عذبٍ يَسري في جسدِ النّصّ، وهي تخرجُ عن رتابةِ الشّعرِ العموديّ، فحروفُ الشّاعرةِ مُتقطّعةٌ، كما أنّ الآمالَ في الوطنِ تائهةٌ، وهنا مَكمَنُ مُعطياتِ الحزنِ وانفعالاتِهِ الّتي تتساكبُ كانسكابِ وسقوطِ حبّاتِ المطر، و”أمّا النّسق الموسيقيّ فيُؤكّد القائلون بجوهريّتِهِ: أنّ أهمّيّةَ الحداثةِ الشّعريّةِ تَكمُنُ في خروجِها على نظامِ البيتِ الشّعريّ الكلاسيكيّ القائمِ على تفعيلاتٍ مُحدّدةٍ سلفًا. هذا البيتُ الّذي يُشكّلُ أساسَ القصيدةِ العربيّةِ موسيقيًّا، والّذي يُحيلُ على نمطيّةٍ عَروضيّةٍ، لم تَعُدْ تتلاءمُ والذّوق المعاصر مِن جهة، ولم تعُدْ تتلاءمُ وطبيعة الانفعال الشّعريّ مِن جهةٍ ثانية، بحيث يَصحُّ التّوكيد، بحسب هذا النّسق، أنّ الخروجَ على ذلك النّظام، هو في ذاتِهِ، دخولٌ في الحُرّيّة الّتي تُميّزُ التّجربةَ الشّعريّة، ومِن دونِهِ لن يتمكّنَ الشّاعرُ العربيُّ مِنَ التّعبيرِ عن تجربتِهِ بالشّكلِ الأمثلِ”. (3)

“يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء”: كنايةً عن الغموضِ الّذي يلفُّ الوطنَ، ويعصفُ بالمواطنِ في الضّياع والتّيه.

“وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ.. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً”: تزخرُ كلماتُ النّصِّ بالفقدِ والضّياع والتّيه وغموضِ المستقبل، في نحو: تعاريج، التّيه، شاردة، وفي السّطر السّابق: يتعفّر، غموض.. الخ.

“تَتشاسَعُ”: يتكرّرُ صوتُ الصّامت التّاء، والتّكرارُ يولدُ إيقاعًا في النّصّ، كما أنّهُ يُصوّر التّجربة الشّعوريّة الّتي تسيطرُ على الشّاعرة، والصّيغةُ هنا تدلُّ على التّدرّجِ والزّيادةِ في التّيه والضّياع، ويُضفي صوتُ التّاء خصائصَهُ الصّوتيّةَ على النّصّ، فهو مهموسٌ يُلائمُ الإطارَ النّفسيَّ للشّاعرةِ في موضوعِ الوطن، وهو رقيقٌ يُناسبُ رقّةَ أماني الشّاعرةِ وحُلمِها، مُفعمةٌ بكلّ معاني الحبّ والإخلاصِ له، ولعلّ تكرارَ حرفِ التّاء قد أضفى على السّطر جِرسًا موسيقيًّا، وحقّقَ إيقاعًا وتلوينًا صوتيًّا خاصًّا.

ليس هذا فحسب، بل إنّ التّاء الانفجاريّةَ الشّديدةَ تُلائمُ حالةَ الضّياع، فهي تُلائمُ بصوْتِها وتكرارِها الهادر ما يعتور النّفس من معاني الغضب والشّدّة، كما لاءمتْ همساتُ العشق للوطن، وتُضفي جوًّا من الإيقاعاتِ الصّوتيّةِ الملائمةِ للنّفس البشريّةِ الهائجة، وتُناسبُ العنفوانَ والكبرياءَ الّتي تحسّ بها. لهذا؛ فإنّ صوتَ التّاء يُلائمُ معظمَ الموضوعاتِ الشّعريّةِ الّتي تَناوَلَها شعراءُ العربيّة، وتُناسبُ النّفسَ البشريّةَ في هدوئِها وتمرُّدِها.

يقول كولردج: “إنّ مصدرَ الوزنِ في الشّعرِ حالةٌ مِنَ التّوازن، تَنتجُ مِنَ انطلاقِ الانفعالِ وجُهدِ الشّاعرِ جهدًا تلقائيًّا للسّيطرةِ على الانفعال. وهي حالةٌ تُديمُ الصّراعَ الّذي يُولّدُها، وتُحيلُ الوزنَ إلى عاملِ نُموٍّ عضويٍّ يتّحدُ بلغةِ الانفعالِ الطّبيعيّة، وهي لغةُ التّعبيرِ بالصّور”(4).

“أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ .. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي .. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!”: كنايةً في كلٍّ عن التّيهِ والضّياعِ والألفاظِ دالّة على المعنى في مثل: أطارد، مسافات، متسافكة، انعطافات، جهات، يشاكس، ونلحظُ معانقةَ الزّمانِ للمكانِ في هذه السّطورِ، وتَبرزُ الحركةُ والصّوت وما يعتري النّفس والرّوح من أحاسيسٍ وقلقٍ..، ولقد تكرّرَ صوتُ الكاف في هذه السّطور خمسَ مرّات، وتكرار الحرف “يُحدثُ نغمةً موسيقيّةً لافتةً للنّظر، لكنَّ وقْعَها في النّفس.. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ تكرارَ الصّوتِ يُسهمُ في تهيئةِ السّامع، للدّخولِ في كُنْهِ ولُبِّ الكلمةِ الشّعريّة.

“وتكرارُ صوتُ الكاف في المقطع الشّعريّ- يُحدثُ إيقاعًا نغميًّا ( تناغميًّا)، موقِظًا للدّلالةِ، وباعثًا لحراكِها الجماليّ، بوصْفِهِ مركز ثِقل الصّورِ الشّعريّة، ومحرّك حركتها وجذرها الّذي ترتكز عليه، فالشّاعرةُ إذًا؛ وَجدَتْ في هذا التّكرارِ صورةً من صورِ التّلاحمِ والتّضافرِ الفنّيّ في هذه القصيدة، ليُدلّلَ على إحساسِهِ الغزليّ الشّفيف، وصُورِهِ الرّومانسيّةِ المُتلاحمةِ الّتي تتقطّرُ حساسيّةً ورؤية، وهذا التّكرار-من شأنه- أن يرفعَ وتيرةَ الإيقاع/ والموسيقى الصّوتيّة، إثرَ تتابُعِ التّكرارِ تتابُعًا فنّيًّا موحِيًا؛ وقد عمدَ الشّعراء إلى هذا الأسلوب، ليُمتّنوا أواصرَ القصيدة، وليُحقّقوا تناغُمَها وتَلاحُمَها الفنّيّ. (5)

هذا التّكرارُ مِن أبرزِ مَهامِّهِ ووظائفِهِ الفنّيّةِ أنّه “يُحقّقُ في النّصّ الشّعريِّ الواحدِ دلالاتٍ مُختلفةً، تَتمثّلُ في مَقدرتِهِ على جمْعِ ما تَفرّقَ مِن المَقاطعِ الشّعريّة، انطلاقًا مِنَ المُعطياتِ الصّوتيّةِ الّتي تُكسبُ- بتكرارِها- النّصَّ الشّعريَّ بناءَهُ العامّ. وكذلك، فإنّ تكرارَ المقطعِ يُشكّلُ نقطةَ ارتكازٍ نغَميٍّ يُوقفُ جريانَ الإيقاع، بهدفِ التّركيزِ على نغمةٍ مُعيّنةٍ، مُوظّفةً أساسًا لتأديةِ الدّلالة الّتي تَفرضُها التّجربةُ الشّعريّة، والمُهمّ في هذا التّكرارِ أن يُؤدّي وظيفةً فنّيّةً ما، تنعكسُ على القصيدةِ ودلالاتِها كافّة.”(6).

 

أمّا تكرارُ صوتيّ الرّاء أربع مرّات، والياء صوت المدَ مرّتيْن في كلمتيْ: “حَرير” و “خَريرِكِ”، فلهُ تأثيرٌ في تحويلِ اللّفظِ إلى صورةٍ مرئيّة، ولصوتِ الرّاء تماثلٌ للصّور المرئيّةِ الّتي فيها تأرجُحٌ، فقد استخدَمَتْها الشّاعرةُ هنا، لتُناسبَ الشّعورَ النّفسيَّ للإنسانِ الخائفِ مِنَ التّيهِ والضّياعِ غالبًا، وتنقلَهُ حينًا بشعورٍ بالأمل، وما يجري مِنْ سلبٍ للوطن، فالخوفُ يُصاحبُهُ اضطرابٌ، بل رعشةٌ يمكنُ تَجسيدُها وإظهارُها واضحةً، إذا ما ذهبْنا بخيالِنا إلى تأرجُحِ الجسمِ وعدمِ استقرارِهِ، وهو ما يُوحي بهِ صوتُ الراء هنا، وما فيهِ مِن تفصيلٍ وحركةٍ وتأرجُح.

تقول في المقطع الثاني:

“دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء/ يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء/ يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا/ يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ/ يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ/ يَ تَ هَـ جَّ ى .. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!”

دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء”: كنايةً عن السّعادة عدا ما يحصلُ في الوطن، وتتلاعبُ الشّاعرةُ بالألفاظِ كما في كلمتي: “يُنادمُني” و”النّدماء”، لخلقِ إيقاعٍ موسيقيٍّ عن طريقِ تكرارِ بعضِ الأصواتِ، وفي هذا المقطعِ تتكرّرُ أفعالُ المضارعة في نحو: يُنادمُني، يَلهثُ، يئِنُّ، يَعوي، يتذاءبُ، يتوعّدُ، وتكرارُها يُفيدُ الاستمراريّةَ والتّجدّدَ.. استمراريّةَ المأساةِ وتَجدُّدَها في روْعِ الشّاعرة.

“يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء”:

كنايةً عن مواعيد عرقوب لا تُنفّذ للفلسطينيّين. وفي السّطرِ انزياحاتٌ وصورٌ شعريّة، فللمواعيدِ وفاءٌ، وتَلهثُ كما الإنسانُ المُتعبُ، والمواعيدُ فارغةٌ كما الأوعية.

“يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا”:

وفلسطين لجَمالِها كأنّها بستانٌ، والبستانُ بجَمالِهِ ونضارتِهِ كما الكائنُ الحيّ لهُ أنينٌ مِنَ الوجعِ ممّا يحصلُ، وهو عليلٌ مُتعطِّشٌ بفِعلِ الظُّلم.

“يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ/ يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ/ يَ تَ هَـ جَّ ى.. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!”:

الصّمتُ لا ينطقُ، لكنّهُ لهوْلِ المَصابِ يَعوي ويَصيحُ، وتُصوّرُهُ الشّاعرةُ كالحيوانِ في قفصِ الصّيّادِ يُعاني شدّةَ الجوع، والصّمتُ يَذوبُ قلقًا ويَتوعَّدُ، والحكايا تتوعَّدُ حُملانَ الضّأن، وللخطايا حُملان.. صورٌ شعريّةٌ وانزياحاتٌ جماليّة، والصّمتُ يتهجّى حروفَ المآسي، وآهاتُ الشّاعرةِ تتوهُ في عتمةِ الفقدِ والضّياعِ في مَلهى وطنٍ يضيعُ. وتُدركُ الشّاعرةُ أنّ بناءَ القصيدةِ يحتاجُ إلى وعيٍ جماليٍّ في التّشكيل النّصّيّ، وهذا البناءُ الهندسيُّ يأتي دقيقًا وليس عشوائيًّا، بل يأتي ليكشفَ عن لذّةٍ معرفيّةٍ وجَماليّةٍ في التّشكيل.

“ولمّا كانتِ القصيدةُ بنيةً موسيقيّةً مُتكاملةً، كانَ مِن الطّبيعيّ أن تلتفتَ الشّاعرةُ في تَشكيلِها لهذهِ البنيةِ إلى العناصرِ الّتي تُحقّقُ الانسجامَ بينَ مُفرداتِها، فعمليّةُ التّشكيلِ الّتي تقومُ بها الشّاعرةُ في القصيدةِ عمليّةٌ مُعقّدةٌ غايةَ التعّقيد؛ لأنّها تأخذُ في الاعتبارِ الأوّلِ، أن تكونَ القصيدةُ- مَهما طالت- هي الوحدةُ الفنّيّةُ الّتي تَعملُ في داخلِها أشتاتٌ مِن المفرداتِ والدّقائق”(7).

وتشدو في المقطعِ الثّالث: “كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ/ ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟/ أَمْضي إِلَيْكِ ضارِعًا/ تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي.. أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ/ أَتَوَكَّأُ عَلى.. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء/ أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟/ أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟”

“كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ”: فاللّحظاتُ لها مشاعرُ تُجْترحُ، ولها لونٌ لازورديٌّ جميلٌ كلونِ السّماء الصّافية.

“ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟!”: وللصّمتِ ملكوتٌ صامتٌ يُعتلى، وللشّاعرةِ عرشٌ مُجنَّح.

“أَمْضي إِلَيْك ضارِعًا”: وتتضرَّعُ الشّاعرةُ لخالقِها، بأنْ يُزيلَ عنها لجّةَ الضّياعِ والتّيهِ، وأن يعودَ الوطنُ لسابقِ عهدِهِ وازدهارِهِ وحُرّيّتِه.

“تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي.. أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ”:

والخيالُ يمشي ويَسيرُ ويَخطو، وللفرحِ ظلالٌ كظلالِ الأشجار. والسّطرُ كنايةً عن تَطلُّعِ الشّاعرةِ بالأمل.

“أَتَوَكَّأُ عَلى.. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء”: وقد ذكرتِ الشّاعرةُ الحروفَ وهي الجزءُ، وأرادتْ بهِ الكلامَ وهو الكلّ، مَجاز مرسل علاقته الجزئيّة، وتتوالى الصّورُ الفنّيّة والانزياحات، فللحروفِ أنفاسٌ يُتكأُ عليها كما العكّاز، وللحروفِ أرجلٌ لكنّها عرجاء.

“أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟/ أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟”:

وقد أسندتِ الشّاعرةُ كافَ المخاطبةِ لاسم الاستفهام أين، وللعتماتِ قببٌ كما المساجدُ والمَزارات، وكأنّي بالشّاعرة تُخاطبُ نفسَها، أو أنّها تتخيّلُ شخصيّةً أخرى كعادة الشّعراءِ القدامى، تبثُّها وجعَها وأحلامَها وأمانيها، وتتكرّرُ لفظةُ “أينكِ” وكأنّها تريدُ أن تقول: أينَ أنتِ لتُرمّمي ضياعَ فكري، لأسوغَ بأفكاري أشعارًا في بكاءِ الوطن؟

في هذه السّطور خاصّةً والنّصّ عامّةً، نجد أنّ الصّورةَ الفنّيّةَ تبرزُ بقيمتِها الجَماليّةِ وحُسنِ الاختيار، وبلاغةِ المعنى الشّعريّ والتّصويرِ والتّجسيدِ، وهذا يَدلّنا على “أنّ أيّ عدَمِ توازنٍ أو خللٍ بينَ العناصرِ اللّغويّةِ والتّصويريّة والإيقاعيّة، سيُخفّفُ مِن شعريّةِ الخطابِ وتَفرُّدِهِ، إذ إنّ شعريّتَهُ تنبعُ مِن تَعانُقِ التّراكيبِ المميّزةِ معَ العناصرِ الأخرى؛ والمبدعُ الحاذقُ هو الّذي يُسخّرُ إمكانيّاتِ اللّغة ويتلاعبُ بتراكيبِها، ممّا يمنحُ نصَّهُ خصوصيّةً شعريّةً، تجعلُهُ يتميّزُ عن غيرِهِ مِن النّصوص”. (8).

في المقطع الرابع:

“مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ/ نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ.. يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي/ يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ/ مَن ذا الأَباحَكِ بي؟/ يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم/ تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي/ تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني/ تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ/ وَفي خِلوَةِ سُهْدِي.. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ/ عَلى عَتَباتِ مَراياكِ!”

“مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ/ نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ.. يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي”: كنايةً في كلٍّ عن تَرقُّبِ الشّاعرةِ بانزياحِ الغمّةِ والهموم عن الوطن الذّبيح.. وتُتابعُ اللّغةَ الشّعريّةَ المتمثّلةَ بمختلفِ الانزياحاتِ والصّور الفنّيّة، فللسّمواتِ حُجُبٌ، والنّجمُ يَسهو ويَتلصّصُ كما الإنسان، وللشّاعرة كهوفٌ، وتتلاعبُ الشّاعرةُ بتكرارِ الحروفِ في كلمتيْ “يَنْجُم” و”مَناجم” لتوليدِ إيقاعٍ موسيقيّ.

“يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ“:

وفي السّطرين انزياح في التّقديم والتّأخير، فالأصل: “يُعَرّي ياقوتكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. “: فقد قدَّمتِ الشّاعرةُ ما حقّهُ التّأخير، وهو شبه الجملة “بزمرّد لحظه” على “ياقوتُك”، والسّطرُ كنايةً عن بعضِ الأملِ الّذي يَحلمُ بهِ الفلسطيني.

“مَن ذا الأَباحَكِ بي؟/ يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم”: وتنتقلُ الشّاعرةُ في هذيْنِ السّطريْنِ إلى الأسلوبِ الإنشائيّ، فالاستفهامُ يُفيدُ التّعجّب، وفي السّطرِ الأوّل هنا انزياحٌ بالحذفِ، يُفيدُ إثارةَ المُتلقّي وتوليدَ الدّهشةِ في نفسِه “من ذا الأباحكِ”، والتّقدير “مَن ذا الّذي أباحَكِ”، وللخميرةِ زمانٌ آثِم.

“تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي”: وفي هذا السّطرِ تتشابكُ الأفعالُ معَ كلّ الأزمنةِ؛ ماضيًا وحاضرًا ومُستقبلًا.

“تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني/ تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ/ وَفي خِلوَةِ سُهْدِي.. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ/ عَلى عَتَباتِ  مَراياكِ!”:

فالشّاعرةُ كأنّها تبثّ لوعتَها وضياعَها وتيهَها لصديقةٍ تُخاطبُها، وتَشكوها حالةَ الضّياعِ والتّيهِ والغموضِ الّذي لفَّ أشرعةَ الوطن، كما أنّه يُحيطُ بفؤادِها، فكأنَّ الوطنَ دقيقٌ يُعجَنُ ويُخمَّرُ ويُخبَزُ ويُؤكَلُ فيتبخر.. وفي هذا المقطعِ تَتكرّرُ أفعالُ المضارعة الّتي تفيدُ استمرارَ المأساةِ وتصويرِها، مأساة الشّاعرة والوطن، ومِن الأفعال المضارعة في هذا المقطع: يَتَلَصَّصُ، يُنَجِّمُ، يُعَرّي، تَعْجِنينَ، تُسَوِّينَ، تُخَمِّرينَ، أَتْلوني…

تتابع الشّاعرة شدوها في المقطع الخامس: “دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!/ أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي/ تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ/ وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي/ أَيا ريشَةَ شعريّ الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!/ مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب/ وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ/ والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟”  

“دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!”: كنايةً عن التصاق الشّاعرة بالوطن، كما طائر الدّويري لا يغدرُ مسكنَهُ الّذي ألِفَهُ. وضميرُ الفصلِ “أنا” جاءَ لتأكيدِ المعنى. وفي عبارة “مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ! “ انزياحٌ إضافيّ.

“أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي”: وفي السّطرِ انزياحاتٌ إضافيّة متعدّدة، فقد أسندتِ الشّاعرةُ اللّغفَ وهي بمعنى اللّعق والتّقبيل للأنفاس، وجعلتِ الرّيشَ يٌقبِّلُ كما المحبوب، وللأنفاسِ أسرابٌ كما للطّيور.

“تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ”: صورٌ فنّيّةٌ مُتتابعةٌ، فللجَناحيْن شمعٌ يَغمسُ، وللشّعرِ ضوءٌ مُتوهّجٌ..

“وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي“: ويتكرّرُ صوتُ الشّين ثلاثَ مرّاتٍ في كلمةِ “وتُعَشِّشينَ”، كما يتكرّرُ صوتُ السّين في كلمة “بِفُسَيْفِساءِ” مرّتيْن، وصوتُ  الصّامت الواو مرّتيْن في كلمتيْ “أوقاتي” و”أُوَيْقاتي“، وصوتُ التّاء يتكرّرُ في السّطر ثلاثَ مرّاتٍ، كلّ ذلك؛ لتوليدِ إيقاعٍ عذبٍ في خلايا النّصّ، إضافةً للصّورِ الشّعريّة؛ فللجمرِ فراخٌ تُعشّعشُ كما الطّيور، وللفسيفساءِ أويقاتٌ وأوقات…

“أَيا ريشَةَ شعري الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!”: وتنتقلُ الشّاعرةُ لأسلوبِ الإنشاءِ، والنّداء يُفيدُ التّحبّب، وتتعاقبُ الصّورُ الشّعريّةُ وتتوالى الانزياحاتُ، فللشّعرِ ريشةٌ كما الطائر، وللهباءِ ريش.

“مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب”: الاستفهام يفيد النّفي، فأرياش الذّهب لا تفيدُ الشّاعرةَ شيئًا في تيهِها وضياعِها، وفي جوّ الغموضِ الّذي يلفُّ مستقبلَ وحاضرَ الوطن.

“وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ”: تزخرُ الألفاظُ الّتي استمدّتْها الشّاعرةُ مِن مُعجمٍ يوحي بالضّعف والانكسار في هذا المقطع، في نحو: ريش وأرياش، ومنقار وتعشيش، وفراخ وجناح، وأسراب وبترت، وفي السّطورِ التّالية ألفاظ: أسير وكسير وبترت، وعبارة مقصوص الجناح، وكفيفة وعتمةوغيرها، وكلّها تدلُّ على الضّعف، ضعف الطائر المرهون أمره للصّيّاد، فالطائرُ هنا يرمزُ لوداعةِ وضعف الفلسطينيّ وجَمالِ روحه، وتطلُّعِهِ للحُرّيّة والانعتاق.. والسّطرُ هنا كنايةً عن واقع الفلسطينيّ المُرّ.

“والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟”:

كنايةً عن واقعِ الفلسطينيّ المُرّ وضعفِهِ وهَوانِه.

في المقطع السّادس: “كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ/ إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟/ كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ/ تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟”

“كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ”:

تستهلُّ الشّاعرةُ نصَّها بالأسلوبِ الإنشائيّ، والاستفهامُ يفيدُ التّعجّب، فهي تتعجّبُ مِن أن يُحالفَها الأملُ، في ظلِّ واقعٍ كسيفٍ جاءَ لصالحِ المُحتلّ، وعبارةُ “مَقْصوصَ الجَناحِ”: كنايةً عن الهوانِ الّذي لحقَ بفلسطين وبقلب الشّاعرة، وما رافقَهُ مِن تيهٍ وضياعٍ وحيرةٍ وقلق.

“إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟”:

كنايةً عن الظُّلم والظُّلمة اللّذيْن حاقا بمدينة القدس، وعن تَوالي نكباتها وما يُفرَضُ عليها من صفقةِ القرن.

“كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ”:

والاستفهام يفيد التّعجّب، فالشّاعرة تتعجّبُ مِن وصول الفرح لقلبها؛ فأسبابُ الفرح مَعدومة، وفي السّطر مَجازٌ مُرسل علاقته الجزئيّة، ذكرت الشّاعرة الجزء وهو الحَرف، وأرادتْ به الشّعر والكلام “الكلّ”. فللحرفِ عيونٌ ويُقنَّع ويُصيبُه العمى.. صورٌ شعريّة وانزياحاتٌ تُثيرُ خَلَد المُتلقّي.

“تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟”: كنايةً عن الظُّلمة والضّياع الّذي يحيط بقلب الشّاعرة.

وتنشد في المقطع السابع:

“أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!/ أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ/ كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ.. تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ/ تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ/ فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني/ علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي/ ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!”

“أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!“: وتستمرّ الشّاعرةُ في توظيفِها للأسلوب الإنشائيّ، والنّداءُ يفيدُ الحزنَ، والسّطر كنايةً عن تمادي التّيهِ والضّياع اللّذيْن يغزوان قلبَ الشّاعرة.

“أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ”: فلليباب والخراب طينٌ، ولقلب الشّاعرة أقفاصٌ تُجبَلُ بطين الخرابِ والضّياع والفقد والحيرةِ والقلق.

“كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ.. تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ/ تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ/ فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني/ علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي/ ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!”:

“كلما” ظرف يفيد التّكرار وغالبًا ما يكون جوابها فعل ماض، والسّطر كنايةً عن تمسك الشّاعرة بالوطن، وكنايةً عما تشعر فيه بالغربة والضّياع، وقد اختارت الشّاعرة ألفاظها من معجم يوحي بالضّياع في هذا المقطع: لَمْلَمْتِ، أَكْوامَ، رَحيلِكِ، الكافِرِ، اليباب، تَرْتَجِفُ، تُوقِدينَ، جَذْوَةَ، اللَّهَبِ، فَاُحْطِبي، أَعِينيني، لاَ تَحْطِبي، عَليّ،َ تُهْلِكيني، تعويذة، الفقد..

“تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ”:

كنايةً عمّا يختلجُ قلبَ الشّاعرةِ مِن حرقةٍ وألَم.

“فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني“: كنايةً عن الشّدّةِ والغربةِ والضّياع، وما تشعرُ بهِ الشّاعرةُ في وطنِها، والأمرُ يُفيدُ التّضرّعَ والدّعاء.

“علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي”: انزياحٌ بالحذف، فأصْلُ “علّ” هو “لعلَّ”، والسّطرُ كنايةً عن تمنّي الشّاعرة أن تتخلّص من حالةِ الضّياع المسيطرةِ على روحِها ووجدانِها.

“ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!”: كنايةً عن الرّحمةِ في المصيبةِ الّتي تعصفُ بالشّاعرة، فللفقدِ غرّةٌ كما للإنسان، وقد ذكرت الشّاعرة “غرّة الجبين”، وهي الجزء وأرادتْ بها نفسها، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة.

“إنّ البلاغةَ الجديدةَ بلاغةُ “الصّورة الشّعريّة”، تُعَدُّ أوسعَ نطاقًا وأخصبَ مِن مُجرّدِ التّشبيهِ أو الاستعارة، وإن أفادتْ منها”(9)

تستمر الشّاعرة في نصّها في المقطع الثامن: “كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري/ حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ/ وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ/ بُشْرَى مَسَرَّةٍ/ حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ/ تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي/ لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!”

“كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري/ حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ”: و”كم” هنا للتكثير، والسّطران كنايةً عن عبءِ الحالةِ النّفسيّةِ المُتردّيةِ للشّاعرة، بسببِ ما يَمرُّ به الوطنُ مِن مِحَن، وتتزاحمُ  الصّورُ الشّعريّة، فللوقتِ فصولٌ تمتدُّ وتطولُ، وأوقاتُ الشّاعرةِ تتعرّى كما يتعرَّى الإنسان، وهنا انزياحٌ بالحذف في كلمةِ “الْتَتَشَابَحُ”، والتّقدير “الّتي تتشابح”، والحدودُ تفرُّ كما يفرّ الطّريد، وهنا ذكرت الشّاعرة “الحدود” وأرادتْ مَن يعيشُ فيها، مَجاز مرسل علاقته المكانيّة.

“وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ”: وتستمرُّ الشّاعرةُ في بوْحِها لصديقةٍ ترتاحُ لها، قائلة لها بأنّها تنسلّ مِن ظلماتِ المِحنِ والتّيه، والغموض الّذي يُخيِّمُ على الوطن أو روح الشّاعرة، وللظلمات ظلالٌ  كما الأشجار، والظّلالُ يَجتاحُها النّعاسُ كما يجتاحُ البشر.

“بُشْرَى مَسَرَّةٍ/ حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ”: وهنا انزياح بالحذف، المتمثّل في حذف جواب الشّرط، والتّقدير: “بُشْرَى مَسَرَّةٍ”/: “حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ بُشْرَى مَسَرَّةٍ “ فللروح أيائل كما للغابات..

وفي عبارة “أيائل روحي”: كنايةً عن جمالِ روحِ الشّاعرة، رغمَ ما يعصفُ بها مِن ضبابيّةٍ ومِن مِحَن.

“تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي/ لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!”:

كنايةً في كلٍ عن الأملِ الّذي تشعرُ بهِ الشّاعرة أحيانًا، عندما تُحسُّ ببارقِ أملٍ في حدوثِ التّحرُّرِ والانعتاق. وفي السّطريْن تتوالى الانزياحاتُ والصّورُ الفنّيّة: فللأمالِ قطعانٌ كقطيعِ الأغنام تسرحُ وتَمرَحُ، وللشّاعرةِ واحةٌ، والواحةُ تبوحُ وتتكلّمُ كما الإنسان، وللدّهشةِ خرائط. “فالشّعراءُ المميّزونَ هُم الّذين ينسجونَ الصّورَ الجديدةَ مِن  المعاني المُجدَّدة؛ إمَّا بإعادة صياغة التَّراكيب- مَهما كانت درجتُها مِن حيث الاعتياديّة أو الرّداءة- عبر تكوين علاقاتٍ غيرِ مألوفة سلفًا، حيث إنَّ مُهمّةَ الشّاعر أن يُحسنَ صياغتَها، ويُخرجَها في صورةٍ جميلة”. (10)

وتستمر الشّاعرة في نصّها في المقطع الثامن: “مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ/ حينَما غُصونُ حَرْفي.. تَميدُ بِكِ/ حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها.. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ/ تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ/ حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي/ تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً/ وَ أَ تَ فَ تَّ تُ.. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ”.

“مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ”:

كنايةً عن فرح الشّاعرة بوطنِها حينما تتغنّى به، والصّورُ الشّعريّة تتوالى، فلفرح الشّاعرةِ عرائسُ تميسُ وتتمايلُ طربًا، وفي القصيدة عامّةً وفي هذا المقطع خاصّة، تتعاقبُ الصّورُ الشّعريّة “إنّ الشّعرَ العذبَ الّذي يُشنَّفُ الأسماعَ، ويُسكرُ الألبابَ ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشّعر الّذي يَموجُ موجًا بالصّور الشّعريّةِ الحافلةِ الّتي تشكّلُ نواةَ القصيدة، فالشّاعرُ المُتصرّفُ في فنونِ الشّعر، والّذي يتّسمُ شِعرُهُ بدقّةِ المعاني ولطافةِ التّخيّل وملاحةِ الدّيباجة، هو الشّاعر الّذي يدمغ شعرَهُ المهفهفَ في دخائل كلّ نفس، ويُوطّدُ دعائمَ أبياتِهِ المُطهّمةِ العتاق في مَدارجِ كلّ حِسّ، والأشعارُ الّتي تفتقدُ لهذه الصّورِ البديعة، يَتخطّفُها الموتُ ويكتنفُها الظلام، ولا يترنّمُ بها النّاسُ في دروبِ الحياةِ ومُتعرّجاتِها. لأجل ذلك أضحت الصّورةُ الشّعريّة هي جوهرُ الشّعر وأساسُ الحُكم عليه، ولقد اهتمَّ النّقّادُ بجانب التّصويرِ منذ قديم الأزل، وقدّموا جهودَهم في هذا الصّدد، وإن اقتصرتْ جهودُهم على حدودِ الصّور البلاغيّةِ كالتّشبيهِ والمَجاز، ولم تتعدّاها لتشملَ الصّورَ الذّهنيّة والنّفسيّة، والرّمزيّة والبلاغية الّتي تتبلورُ وتتناغمُ في وجدان الشّاعر. ولعلّ الحقيقةَ الّتي يجبُ عليّ بسْطُها هنا، أنّ الصّورَ الّتي يُعدُّها أصحابُ الحسِّ المُرهفِ أغلى مِن أقبيةِ الدّيباج المخوص بالذّهب، ليست قاصرةً على الشّعر، بل نجدُها منثورةً في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتّابه. (11)

“حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ”:

وفي السّطر انزياحٌ بالحذف، وهنا يظهرُ حرفُ الشّرط “حينما”، وفِعله “غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ”، ولجأتْ لحذفِ جواب الشّرط، والتّقديرُ “حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ”.

“حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها.. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ”:

وتتكرّرُ “حينما” وهي اسمُ شرطٍ غير جازم بمعنى عندما، فغصونُ حروفِ الشّاعرة تتبخترُ في مِشيتِها، ولها غنجٌ كما العروس الّتي تتباهى في مِشيتِها ودلالِها. إنّها صورٌ فنّيّة حسّيّةٌ تتوالى..

“تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ”: كنايةً عن انصهارِ القلمِ في التّعبير، وعن توَحُّدِهِ في الوطن وذوبانِهِ فيه. وفي عبارة “عرى لقاء” انزياحٌ إضافيّ يُولّدُ الإثارةَ في نفسِ المُتلقّي.

“حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي”: يتكرّرُ اسمُ الشّرطِ “حينما”، وتتعاقبُ الصّورُ الشّعريّةُ والانزياحاتُ: فللزّفيرِ لونٌ أخضرُ كالعشب، وللشّهيقِ شغافٌ كالقلب.

“تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً”: السّطرُ جوابُ الشّرط، وتتلاعبُ الشّاعرةُ في الألفاظِ بين كلمتيْ “أعناق” و”عناق”، لتوْليدِ إيقاعٍ جميلٍ في ثنايا النّصّ، فللعناقِ وللقاءِ أعناقٌ تتطلّعُ كأعناقِ الكائناتِ الحيّةِ وتتزاحمُ.

“وَ أَ تَ فَ تَّ تُ.. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ”: كنايةً عن شغفِ الشّاعرةِ بالكتابةِ عن الوطن وتعلّقِها به، واتّحادِ حِبرِها فيه وفي التّعبيرِ عنه. وجاءتِ الحروفُ مُتقطّعةً ليسهلَ تَغنّيها فيه. وتكرارُ حرف التّاء جاء ليفيدَ التّأرجُحَ ولتوليدِ الإيقاعِ في النّصّ.

ويتكرّرُ الفعلُ المضارعُ في هذا المقطع، ليفيدَ الاستمراريّةَ وبثّ الحياةِ في النّفس، وتكرارُ بعضِ الأصواتِ كصوت التّاء جاءَ لتوليدِ إيقاعٍ يسري في ثنايا النّصّ، في نحو: “تَميدُ، تَتَبَخْتَرُ، تَتَمَايَلُ، تَتَوارَفينَ، تَلُفِّينَ، وَ أَ تَ فَ تَّ تُ” و..

“إنّ الاختلافَ في التّعامُلِ معَ الأشياء، في شعر الحداثة، لا يُحيلُ على الاختلافِ في طبيعةِ التّحريضات الجَماليّةِ للأشياء، في الذّاتِ المُبدعةِ فحسب، بل يُحيلُ أيضًا على انتفاءِ النّمطيّةِ الواحدةِ أو المُوحّدةِ في الطّرحِ الفنّيّ. فعلى الرّغم من أنّ للحداثةِ وعيًا جماليًّا مُوحّدًا، إلّا أنّها لا تنطوي على نمطيّةٍ فنّيّةٍ واحدة، وما اشتمالُ الحداثةِ على عدّةِ تيّاراتٍ شعريّةٍ إلّا دليلًا على ذلك. صحيح أنّ هنالك نواظم مشتركة، ولكن هنالك أيضًا فوارقُ ملحوظة بين تلك التّيّارات، ولا شكّ في أنّ كلّ ذلك ينسجم ومفهوم الجمال الّذي يُشترطُ فيه التّميّز والحُرّيّة والحيويّة، بحسب الوعي الحداثيّ”. (12)

وتقول في المقطع التاسع: “أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى/ حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ.. في فِخاخِ الانْتِظار/ وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ.. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا/ تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي.. تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً/ تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني/ هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ.. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ/ لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!/ رُحْمَاكِ/ هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ/ لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!/ أَدْمَعُ! و.. أَدْمَعُ! وَ.. أَدْمَعُ!/ مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!/ مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!/ هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا/ إعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ/ كِرازةَ لِقاءٍ/ عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ/ عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ.. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!”

وفي هذا المقطع نرى عودةَ القوّةِ والأملِ لروح الشّاعرة، بعدَ أن سيطرَتْ على كيانِها حالةُ الضّياع والتّيه، فتنظرُ الآنَ للوطنِ نظرةً مِلؤُها الأملُ بتغييرِ الحالِ نحوَ الأفضل والأجمل:

“أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى”: وللصُّبحِ أرصفةٌ كما للشّوارع مع إطلالةِ الأمل، والصُّبحُ يرمزُ للأملِ المُشرق. صورٌ شعريّة تتعاقبُ، “إنّ الصّورةَ في الشّعرِ لا تُفرضُ مِن الخارج، وليست زينةً أو حلية خارجيّة في القصيدة، بل جزءٌ مِن التّفكيرِ وطريقةِ التّعبير. ومن هنا، فالاستعارةُ أو التّشبيهُ أو الكنايةً أو غيرها من الوسائلِ البيانيّةِ والبديعيّة، ما هي إلّا طريقة للتّفكيرِ لا مجرّدَ أدواتٍ تزيينيّةٍ مُضافة للقصيدة (13).

“حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ.. في فِخاخِ الانْتِظار”: في السّطر انزياحٌ بالحذفِ المتمثّل في حذفِ جواب الشّرط، والتّقدير: “حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ .. في فِخاخِ الانْتِظار، أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى.

“وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ.. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا”:كنايةً عن تحلّي الشّاعرة بالأمل في المستقبل؛ مستقبل الوطن وعودتِهِ ببهائِهِ وحرّيّتِهِ. وللموسيقى أصابعُ كما للشّخص. تصويرٌ وتجسيمٌ وبثُّ الحياة في المعاني.

“تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي.. تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً”: والحورية وهي رمز للجمال تعود لبحر فلسطين بكامل بهائها، تتأبط الشّاعرة وتطوف بها هائمة بالأمل.

“تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني”: كنايةً عن حلم الشّاعرة بالأمل وانتهائها من حقول التّيه والضّياع.

“هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ .. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ/ لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!/ رُحْمَاكِ/ هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ/ لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!“: كنايةً في كلٍّ عن حلمِ الشّاعرةِ بغدٍ أفضلَ للوطن.

“هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ”: كنايةً عن المستقبل القريب المُشعّ بالأمل.

“وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ”: كنايةً عن مستقبل الوطن البعيد، وذكرت الشّاعرة “الغد” مجاز مرسل علاقته الزّمانية، فذكرت الزّمن وأراد النّاس الّذين يعيشون فيه.

“أَدْمَعُ!.. و.. أَدْمَعُ!.. وَ.. أَدْمَعُ!”:

كنايةً في كلٍّ عن الدّمعةِ المنسكبةِ مِنَ العينيْن، لتحقيق الأمل المرجوّ في رفعة الوطن ولكثرة الخير ما يستدعي البكاءَ النّاتجَ عن تحقّق الحلم، والتّكرار.. تكرار “أدمع” لتوليد إيقاع عذب في قصيدة النثر، والإيقاع “إنّما “يعني انتظام النّصّ الشّعريّ بجميع أجزائه في سياق كليّ، أو سياقات جزئيّة تلتئم في سياق كليّ جامع، يجعل منها نظامًا محسوسًا أو مدركًا، ظاهرًا أو خفيًّا، يتّصلُ بغيره من بُنى النّصّ الأساسيّة والجزئيّة، ويُعبّر عنها كما يتجلّى فيها. والانتظامُ يعني كلّ علاقات التّكرار، المزاوجة، المفارقة، التّوازي، التّداخل، والتّنسيق، والتّآلف والتّجانس، ممّا يعطي انطباعًا بسيطرة قانون خاصّ على بنية النّصّ العامّة، مُكوّنًا من إحدى تلك العلاقات أو بعضها. وعادة ما يكون عنصر التّكرار فيها هو الأكثر وضوحًا من غيره، خاصّة وأن يتّصل بتجربة الأذن المُدرّبة جيّدًا على التقاطه. وليس يعني أيٌّ من تلك العناصر الإيقاعيّة في تكويناته الجزئيّة الصّغيرة المبعثرة في النّصّ شيئًا ذا بال، إذ هو لم ينتظم في بنية إيقاعيّة أساسيّة وشاملة تجمع من مختلف أطرافه”(14).

والسّمة الجوهريّة لشعر الحداثة “تكمن، بحسب هذا النّسق، في المستوى الموسيقيّ من النّصّ الشّعريّ. فالتّحديث الموسيقيّ قد أتاح للشّاعرة أن تتخلّص من القيود الّتي تمنعها من التّعبير عن تجربتها الشّعريّة، وعن واقعها المعاصر تعبيرًا حيًّا، ينبض بالحُرّيّة والجمال الفنّيّ”(15).

“مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!”: وتعود الشّاعرة في هذا السّطر والّذي يليه، للأسلوب الإنشائيّ والاستفهام بـ “مَن” في كلّ يفيد النّفي”، فلا أحد يفرح لتحقيق الأمل المرجوّ بنصرة الوطن إلّا أهله. فلهوى الشّاعرة قناديل هوى تغسِل ..

“مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!”:

كنايةً عن ألّا أحد يتغنَّى بجماليّةِ السّمرِ والسّهر بتلقائيّةٍ، في ليالي فلسطين غير أهل الوطن في فلسطين.

“هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا”: وآمال الشّاعرة لا تلبث أن تتبدَّد وتعود ضياعًا في زحمة الضّياع.

اِعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ/ كِرازةَ لِقاءٍ”: وهنا تعود الشّاعرة مخاطبة الوطن، والاستفهامُ يفيدُ التّمنّي، فتتمنّى الشّاعرة أن تتغنّى بالوطن وبانعتاقه، فتغيب عن روحها حالة الفقد والتّيه والضّياع.

“عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ”: الفجرُ رمز للحُرّيّة والأمل.

“عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ .. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!”: وتتمنى الشّاعرة أن تعود البسمة تزين ثغرها، فتعود الحُرّيّة مخيمة عليه وتغيب عنه حالة الفقد والضّياع…وتتوالى الصّور الفنّيّة والانزياحات الّتي تثير خلد المُتلقّي:، فللحبّ بشائر تُعزَف، ولليالي عذريَّة ووهج، وللفجر قيثارة.

 

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!