ظاهرة التملق بالمجتمع المغربي –  ( أسبابها و تداعياتها )

حمزة المليح ،

باحث في علم الإجتماع – المغرب

صدق الحق ، سبحانه و تعالى حينما قال في محكم تنزيله ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” صدق الله العظيم .

كثير من الأشخاص نجدهم يؤمنون بهاته الآية و يجلونها في كينونتهم الداخلية كتصور عقلي عارض ، خال من أي فعل حيوي تطبيقي في مسار حياتهم ، و تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين .إن التغيير الداخلي و السمو النفسي ، سنة الإنسان الناجح ، حيث يكون الضمير الأخلاقي في أبهى حلله الإنسانية ، ويكون الرشد و الإخلاص منبع التحضر المجتمعي . لكن هذا التغير الداخلي ليس أمرا هينا ، ولا سلعة جامدة يمكن أن نبتاعها من دكان أحدهم ، وإنما هو حالة من الرضى النفسي ، و اليقين المطلق بضرورة الإنتقال من مرحلة أدنى إلى مرحلة أرقى .

نعم أنه قانون الدورة الحضارية الذي يجثم في أبعاد النفس الإنسانية ، المريدة ، والراغبة ، والطامحة …

ولأن طريق الحق صعب عسير ، ومسلك الانحراف سهل يسير ، إختار الكثير منا إتباع الأخير ، و فضلوا تغيير الآخر قبل أن يبادروا بتغيير أنفسهم ، فتفشت السموم البشرية الخبيثة ، حاملة معها أوبئة إجتماعية أبغضها الكذب و أشرها النفاق التملق .

فأصبحت الحوائج تقضى بغير حق ، و أعطيت المناصب لمن لا يستحق ، و منحت الشواهد لصغار القوم ، وأقصي كبارها ، و تبخرت النزاهة و الشفافية و الموضوعية مع انحطاط الكرامة الإنسانية ، و فقدت الإبتسامة ملامحها البريئة حينما اختلطت بمبدإ الوصولية و الإنتهازية الجماهيرية .

إن التملق في أقصى تجلياته داخل المجتمع ، يولد لنا جيلا فاسدا ، مخادعا ، لا يدرك وظيفته التفاعلية داخل مجتمعه ، جيل يسخر طاقته الحيوية الدفينة في خدمة الغريزة البهيمية ، و يتجاهل بموجبها أسسه الإنسانية الكونية ، ليفقد على إثرها الأفراد  الثقة الكلية في بنية التنظيمات الإجتماعية التي يحيون داخلها ، ويتحولون بذلك من جيل الضباع الذي تنبأ به الراحل  محمد جسوس  إلى جيل من المخادعين و الوصوليين .

هذا الشعور بالإغتراب النفسي و الإجتماعي ، يجعل من الإنسان كائنا سوداويا ، فاقدا للثقة بمؤسساته التعليمية و الدينية والسياسية ، فتتسرب إلى سراديب أعماقه الداخلية ، قاعدة :  الكل يشترى بالمال ، و يؤدى عنه بشبكة العلاقات و المعرفة البراغماتية ، فيزيغ البصر عن نور الحق ، و يولد مجتمع الباطل و الطغيان الإجتماعي ، وترى العلاقات المزيفة ، و الأطماع البشرية وهي تعتلي سقف البناء الإجتماعي لمجتمع أساس معاملاته مبنية على التملق ، من أجل قضاء الحوائج الفانية .

و عندما تتحول العلاقات الإجتماعية من علاقات يحكمها الصدق و المحبة الخالصة ، إلى علاقات مبنية على المصالح ، يكون المجتمع قد دخل في مرحلة ما بعد نهاية الدورة الحضارية ، مرحلة التفكك و الإنحطاط الأخلاقي و فناء الكرامة الإنسانية.

و قد ذكر الفيلسوف العلامة عبد الرحمان ابن خلدون في مقدمته ، بأن اندثار العدل مؤذن بخراب العمران بعد كثرة الترف ، و تحدث فيلسوف الحضارة ، المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ، عن مفهوم الفراغ الكوني الناتج عن غياب الفعل ، و الحركة ، و العمل المتواصل ، مما يؤدي إلى تصدع الطاقة الحيوية للفرد ، فتنتشر بذلك عوضا عنها ، كل أساليب الخداع و الظلم الإجتماعي . ” فكلما كان المجتمع مختلا في نموه ارتفعت قيمة ضريبة العيش فيه ” ، و يمسي التملق سلعة بشرية تحل محل  العمل الجاد ، لأن النفس وعاء إن لم يمتلئ بالحق امتلأ بالباطل .

وقد يقول قائل :

لكن ما علاقة الظلم ، وغياب العدل بظاهرة التملق ؟

هذا لأن  ظاهرة التملق  تؤدي إلى انعدام تكافؤ الفرص داخل المجتمع ، و تقتل روح المبادرة الجادة في الأفراد ، و تساهم في انتشار الجهل ، وسيادة الأحقاد و الضغائن .

و حينما تندثر القيم الأخلاقية ، ينحط معها الفكر و الأدب و الفن ، و تتلوث الجامعات ، وتصبح مكانا فسيحا لإنتشار العقد النفسية ، و يتحول الأستاذ إلى  “حيوان” غريزي يتلذذ بفعل التملق له ، و يشبع مركب النقص لديه بذلك ، و يمطر برضاه على من شاء ، و يحل بسخطه على من أبى و عصى ، و يمسي الطالب  “جرثومة”  إنسانية متلهفة للوصول إلى القمة دون أي كد أو تعب ، فيتهافت الطلبة و يتفننون في ممارسة ألاعيبهم الوصولية حتى يتقنونها ، فتتحطم معها خصائص البيروقراطية التي تتخذ من الكفاءة و الخبرة معيارا للوصول .

و خذ الكثير من الأمثلة غير الجامعات ، في السياسة نجد التملق ، في الشركات ، في المستشفيات … حتى شملت الأسرة في حد ذاتها ، و أصبحت هاته المؤسسة الإجتماعية الصغيرة ، تبنى بناءا هرميا يقوم على إرضاء الحاجيات ، فتحول الأب باعتباره رمز القوة في الأسرة إلى متملق صغير ينصت بحذر إلى إبنه الذي أصبح ذا منصب وجاه ، و بانحلال الأسرة ، وتغير وظائف أفرادها و انقلاب مكانتهم الرمزية ، لم يعد أمام الفرد إلا أن يتكيف مع هذا الوضع المزري ، ويجعله كأداة ناجعة لتيسير المعاملات الإجتماعية داخل مجاله الحيوي .

و أخيرا يمكن القول ، بأن ظاهرة التملق تدمر النسق الإجتماعي و تفككه إلى أشلاء مبعثرة ، يصعب إعادة تجميعها و تركيبها من جديد ، إذا ما تغلغلت بقوة في مجتمع ما .

إن هذه الظاهرة تكرس لإنهيار العدل ، و ترسخ القضاء على تكافؤ الفرص ، و تجعل من صاحبها  حذاءا يسهل انتعاله ، تجعله إنسانا فاقدا للكرامة ، يجهل أسباب وجوده ، غير واثق من قدراته التي من الله عليه بها .

و ليبدأ التغيير من أنفسنا .

والله أعلم و هو يهدي السبيل .

 

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!