(أدب العزلة في زمن الكورونا)
-خاص بصحيفة آفاق حرة
لا أدري لماذا يأتيني الإلهام، وأتذكّر واجب الكتابة لديّ مع انطلاق صفّارة الإنذار كلّ يوم عند السّادسة، وأتعجّل أمري كأنّ الحظر مفروض على صفحات (الوورد) أيضًا. قلمي المُتِلكّئ استجابة لما يحوك في رأسي من أفكار؛ يتقّظ فجأة مُتدارِكًا تقصيره الذي اعتاده سائر أيّامه وقبل ذلك الحين.
في صغري جميع المُعلّمين في الصّفوف الابتدائيّة والإعداديّة، لم يدّخروا جُهدًا في تلقيننا المعلومات، حتّى ولو استلزم الأمر استخدام القوّة في كثير من الأحيان، عبارتهم الذهبيّة المُكرّرة على سمعي على مدار سنوات المقاعد الدراسيّة:
-(لا تُؤجّل عمل اليوم إلى الغد).
وما زال التأجيل طبعًا لا يتزحزح عن حاله إلى الممات، إلّا في حالة الإلحاح والملاحقة. من فوري فتحت صفحة (الأوفيس). دوّنتُ العنوان متزامنًا مع دخول ابني بطلب لي، قرأ العنوان، فوائد الكورونا.
باستغراب الدّهشة المفاجئ المخالف لما استقرّ في ذهنه من الحذر وتعليمات الحظر وعدم الاقتراب، ومفهوم الخطر الوبائي الدّاهم, تساءل:
-“وهل للكورونا فوائد برأيك..؟”.
-“بكلّ تأكيد لكلّ شيء فوائد وأضرار. ليس الفائدة بالمرض بحدّ ذاته، بل عرفنا جميعًا من تحذير مخاطره، وإجبار أنفسنا على العُزلة، والعزلة من نتائج المرض”.
هزّ رأسه لا أدري هل اقنع بكلامي، أو سمعني أم لا.. وهل راق له؟. وتابعت:
-“ألا ترى أنّها جمعتنا في البيت بشكل دائم، وهذا الأمر افتقدناه منذ زمان، هموم العيش وصعوبات الحياة فرضت عليّ مثلًا غادرة البيت منذ الصّباح حتّى اللّيل، وكأن الكرة الأرضيّة تشتاق استراحتها من لهو البشر، والسّماء تتوق لدعاء البشر بعد نسيان في متاهات الحياة”.
استغراقي في الشّرح أخذني بعيدًا بتركيز فاصل عن محيطي، وتتراكض الأفكار إلى شفتيّ بتزاحم على الخروج:
-“من أعظم الفوائد يا بنيّ صفاء الجو، واستنشاقنا للهواء النظيف، خاصّة سكّان المدُن عامّة بمعاناتهم الطّويلة من معدّلات التلوّث الهائلة المهلكة للصحّة، ومُسبّبة لأمراض الجهاز التنفّسي، وتلف الأعصاب، كذلك دعنا نستمتع بنعمة الهدوء من الضجيج العالي المرهق للنفس والقلب.
من مراقبتي واطلاعي على ما يصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كوّنت رأيًا جديدًا. ازدادت دوافع الإيمان وعاد الكثير ممن كانوا ضائعين في زحمة الحياة إلى ربّهم بالدّعاء والطّاعة”
صحوْتُ من سكرة استغراقي، لأجدني مُوجّهًا حديثي إلى نفسي، شعور مداهم بالتفاهة وأنا أكلّم نفسي، الحمد لله أنّ زوجتي لم تقترب من زاويتي، بكلّ تأكيد لتعاظمت شكوكها بقدراتي العقليّة، لتتأكد شكوها القديمة بجنوني، والحالات المزاجيّة الصعبة التي تأتيني بشكل متباعد.
يا لك من ولد شقيّ تركني وحيدًا بلا مبالاة لسماع إجابتي على تساؤلك، أجيال نافدة الصّبر.. عجولة في طلب مقدّرات الحياة بلا تعب وعناء.. ولا جهد ومشقّة، تتخيّل أن هناك من سيقدّم لها كلّ شيء على طبق من ذهب.
رجعتُ إلى صفحتي أفكّر من جديد لوصل من انقطع من تسلسل كان في ذهني لترتيب الموضوع. فنحان القهوة على يمني رشفتُ منه تغيّر طعم فمي من مرارة استقرّت به منذ دويّ صوت الصفّارة.
ليته استمع لباقي كلامي، لكنّه موضوع وانفتح. سأكمل ما استحضرني من فوائد الكورونا، الأهم على الإطلاق.. تجدّد همّتي إلى القراءات المُؤجّلة من زمان، وتشوّقي لها تَسَاوَق انْغماسًا بمشاغل المعيشة التي لا ترحم من كثرة طلباتها. معظم أرباب البيوت لا يرجعون إلّا وقت النّوم للاستراحة والطّعام، أعمارهم تفنى على صخور جامدة سَحَلَتْ عواطفهم.
من جديد عاد الولد لشكوى لا تنقطع على مدار السّاعة من أخته. تسلسل أفكاري توقّف عند هذا الحدّ، فَوْرَة غضبي كادت تُودي بآخر تماسكٍ لأعصابي التّالفة أصلًا، لولا استعادة رُشدي في اللّحظة الأخيرة، شعور حنان غامر طغى بقطع سَوْرتي عن هذا الكائن الصّغير .
استدرتُ بكُليتّي إليه مُحتضنًا جسمه الضّئيل، بَشَشْتُ بوجهه، وقبّلته بحرارة، وأنا أستمع لشكايته ماسحًا لدموعه، استرضيتُه. ومضى إلى شأنه من جديد. رجعتُ عازمًا أن لا أؤجّل إنهاء كتابتي إلى غد، شعوري بالإنهاك الجسدي.. جلوسي لساعات طويلة أمام الحاسوب شاقني للعودة إلى الفراش.
عمّان -الأردن
1 \ 4 \ 2020