أو كيف نفهم الصين المعاصرة؟ / بقلم : عزالدّين عناية- ايطاليا

وَرَثة ماو

يحاول كتاب “وَرَثة ماو” الإجابةَ عن سؤال محوري وهوكيف نفهم نهضة الصين الاقتصادية اليوم؟ حيث يسلّط الكتاب الضوء بالأساس على العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ الصين المعاصر. وبوضوح ودقة يتتبّعالإيطالي إيغناسيو موزو الثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ الصين وما تضمّنته من إصلاحات اقتصادية جوهرية، وهي فترة ما بعد الزعيم ماو تسي تونغ التي جعلت من الصين في عهد شي جين بينغ قوة اقتصادية، وإن تخلّلتها جملة من التناقصات على المستويين الاجتماعي والسياسي. صحيح ما تعيشه الصين في الوقت الحالي من نهضة، وما تشهده من تمدّدلنفوذها الاقتصادي، يعودان إلى ما هو أبعد من تلك الفترة، ولكن المؤلف الإيطالي إيغناسيو موزو يحاول أن يسلّط الضوء على فترة محورية وراء النهضة الاقتصادية. وللذكر مؤلّف الكتاب إيغناسيو موزو هو أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كافوسكاري في البندقية، وهو عضو الهيئة العليا للبنك المركزي الإيطالي وأحد المنتسبين لأكاديمية لنشييه المرموقة في إيطاليا. ألّف جملة من الأعمال المتعلّقة بالاقتصاد، ومن إصداراته في السنوات الأخيرة “الصين المعاصرة” (2011) و”الدَّيْن العمومي” (2012).

يوزّع الأستاذ إيغناسيو موزو كتابه إلى ستّة فصول، يستهلّها بمقدمةويشفعها بخاتمة بمثابة حوصلة واستشراف. يحاول الكاتب أن يُبرز منذ مستهل كتابه أن النهضة الصينية الحالية ما كانت لتتحقّق لولا الخمس وثلاثين سنة من الإصلاحات الاقتصادية التي ميّزت حقبة ما بعدماو تسي تونغ، وهو ما عالجه الفصل الأول من الكتاب وسعىفي التطرق إلى تفاصيله. في حين يتوقّف الفصل الثاني عند شخصيةالرئيس الحالي شي جين بينغ(65 سنة)،الذي يتولى أيضا منصب سكرتير الحزب الشيوعي.ثم يتناول حضورشي جين بينغداخل النظام السياسي المؤسساتي الصيني،فضلا عن مساعي الرجللمكافحة الفساد، ولا يغفلالكتاب عن توضيحرؤيته الإيديولوجية، مع متابعة دوره في الحزب وخاصيات مشروعه الجيوسياسي.

في الفصل الثالث من الكتاب يعالج الكاتب التحولات التي شهدها اقتصاد الصين في عهد شي جين بينغ، ويحاول أن يسلّط الضوء على الظاهر والخفي في مسار التطور، من خلال عرض العلاقة الرابطة بين مقتضيات سياسةالسوق وسياسة الدولة داخل السياق الصيني. وفي الفصل الرابع يناقش المؤلف التحديات التي تواجه الرئيس شي جين بينغ، مع التطرق إلى مظاهر الاختلال في الصين على المستويين الاجتماعي والبيئي. أما الفصل الخامس فيركز في تحليل مخاطر عدم الاستقرار التي تتهدّد الاقتصاد الصيني، لا سيما مخاطر إصلاح النظامين البنكي والمالي. وفي فصل أخير -الفصل السادس- ينشغل الكاتب بتقديم نظرة شاملة عن الدور الصيني على نطاق عالمي، كما يتوقفإيغناسيو موزو عندوعود الطرح الصيني بشأن طريق الحرير الجديد، كما يعالج هذا الفصل الثقل المتزايد للاستثمارات في العالم ومساعي عولمة العُملة الصينية وأثر ذلكعلى علاقة البلد بمختلف دول العالم. ولا يغفل المؤلّف في هذا الفصل عن الحديث عن علاقات الصين المتينةبدول آسيا وبالخصوص طبيعة علاقتها بالولايات المتحدة وأوروبا.

لقد جاء تحول اقتصاد الصين نتاجَ إصلاحات حازمة انطلقت في مرحلة أولى معدينغ شياوبينغ (أواخر السبعينات ومطلع الثمانينيات)،وذلك عقب رحيل ماو. كان دينغ شياو بينغ نافذا بتولّيه موقعا محوريا داخلنظام الحزب. وبفضل نفوذ الرجل صعد زهاو زيانغ لتولي رئاسة الحكومة وعبره استطاع أن يمرّر إصلاحات اقتصادية جوهرية، لم تتوجّه رأسا نحو الصناعة، بل استهدفت الزراعة في مرحلة أولى، وهو ما سمح بنوع من حرية السوق المراقَبة من قِبل الدولة، وما خلق مؤسسات موازية (مؤسسات المدن والقرى) وشملت قطاعات أخرىقريبة، أدخلت حركة مهمة على الاقتصاد الصيني. في حين جاءت المرحلة الثانية من حزمة الإصلاحات مع جان زيمين (أواخر الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة)، وشملت إعادة تأهيل المؤسسات الرئيسة للدولة، المحرك الأساس للاقتصاد الصيني. وهي الفترة التي شهدت في الغرب آمالا بتحول الصين إلى اقتصاد السوق، بما هدف في الحقيقة إلى خلق نظام مرتَهن للغرب. وكانت المرحلة الثالثة من الإصلاحات مع الرئيس هو جينتاو (2003-2012)، الذي تواصل معه ظهور كوكبة من رجال الأعمال الصينيين، غدوا ناشطين وفاعلين على نطاق عالمي، مع ذلك لميتنكروا لهيمنة مؤسسات الدولة على القطاعات الاستراتيجية.

في التاريخ الراهن يحوز اقتصاد الصين مرتبة متقدمة على مستوى عالمي،حيث نجد مئة شركة من جملة خمس مائة شركة عالميةكبرى هي شركات صينية، ناهيك عن تخطي الناتج المحلي الإجمالي للصين الناتج الأمريكي، وإن يصعب تصنيف الصين ضمن الدول الغنية. فلا يزال الناتج القومي للفرد الصيني دونمستوى المعدل العالمي، وهو ما يساوي ربع ناتج الفرد الأمريكيتقريبا. مع هذا يواصل المجتمع والاقتصاد الصينيين التحول بنسق متسارع، وبشكل ليس له نظير في تاريخ الاقتصاد العالمي السابق: فنحن أمام مشهد بلد يعيش تطورا مطردا من حيث لعب دور نافذ على نطاق عالمي، وتتولى زمام أمره قيادة تتشابه من عديد الأوجه مع القيادة التاريخية لماو تسي تونغ من حيث التأثير والكاريزما والسلطة.

لا بد أن نعي -كما يقولإيغناسيو موزو- أن عقودا من المعاناة والخضوع قد دفعت الصين إلى شقّ مسار ثوري أصيل ومتميز عن كافة المنافسين العالميين الآخرين. فانطلاقا من إصلاحات دانغ سنة 1978، وبرغممختلف المصاعب والتناقضات الحاصلة، دشّنت الصين مسار تحديث اقتصاديرسمت من خلاله معالم انفتاح على الأسواق العالمية، وخاضت مسار تطور علمي وتقني، وهي اليوم تجابه مقتضياتالعولمة بشكل عمليدون أن تهجر المبادئ التي قامت عليها الثورة أو تتنكر لها.فقد تمّ التواجه خلال تلك الرحلة مع مصاعب جمة، في بلد يعُدّ سكانه خمس البشرية وبحوزته سبعة بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة على مستوى العالم، وبمواد أولية ومصادر للطاقة محدودة، مع ذلك يشقالبلد مسارا نحو التطور بخطى ثابتة.

لا يغفل الكاتب عن الإشارةإلى أمر هام في خضم هذا التحليل، وهو أن التطور المتسارععلى مستوى اقتصاديلا يسير بموازاة تحول سياسي ولا يصحبه انفتاح ديمقراطي، بل يشهد البلد ثباتا في ذلك الجانب، حيث لا يزال الحزب الشيوعي يمسك بزمام التسيير والتوجيه لجلّ القطاعات الحيوية. إذ لطالما ذهب المحللون الاقتصاديون، ولا سيما الغربيين منهم، إلى أن التطور التنموي والانخراط في دورة الاقتصاد العالميسيدفعان آجلا أم عاجلا نحو تحوّل ليبرالي ديمقراطي على غرار النمط الغربي. أمْلت ذلك التصور قناعة بأن اقتصاد السوق في أعلى مستوياتهلا يتلاءم مع نظام سياسي مركزي، وهو الشكل السائد في الصين. فالبلد لا يزالرهين حزب مهيمن، ونجد فيه ثمانين مليون منخرط في الحزب الشيوعي. كما تبقى الحكومة والجيش والاقتصاد والإعلام وإدارة تسيير المحافظاتواقعة تحت رقابة المؤسسة الحزبية.

لقد أذهل نسق التطوروحجمه، في كافة القطاعات، ليسالدول الغريمة فحسب بل الدول الحليفة أيضا. ومن خلال إرساء الصين “مشروع 2025” بقصد بلوغ مستويات من التقنية المتطورة تضاهي المستويات الغربية وتنافسها،وما تخوضه من عمليات حثيثة في البحث العلمي لأجل بلوغ الريادة في الأجهزة الحاسوبية الراقية، وفي الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا، وفي نُظم الاتصالات المتقدمة، جلبت تلك الخطى العملاقة انتباه الغرب وعداءه في الآن نفسه، وتحديداالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما ظهرت مؤشّراتهفي خطابات الرئيس ترامب وتغريداته المعنية بالصين. إذ عادة ما تنتقد التوجهات الغربيةُ الرأسماليةُ الصينَ متعلّلة بغيابالديمقراطية وتردّي حقوق الإنسان، فضلا عن تهويل الانحطاطالداخلي على مستوى اجتماعي، في مسعى للتهوين من جاذبية النهضة الصينية.وهو ما لا يفصحعن صورة واقعية وموضوعية للتحولات التي يشهدها البلد. يقولرئيس الوزراء الإيطالي الأسبق رومانو برودي وأستاذ الاقتصاد: كتبتُ مقالافي مطلع التسعينياتبعنوان “الواحدةبأربعين” شرحت فيه أن أجر ساعة العمل وتكاليفها في إيطاليا أعلى أربعين مرة مما عليه ساعة العمل في الصين. الآن لو أعدتُ صياغة ذلك المقاللعنونته بـ”الواحدة بثلاثة”، وهو ما يكشف عن حجم التحول الحاصل داخل النسيج الاجتماعي الصيني،وبما يفصح عن مسار حثيث يعيشه البلد على مستوى كسب الحقوق الاجتماعية أيضا. نحن أمام بلد يشهد نموا مطردا على مستوى اقتصادي، بدأ يصحبه بالمثل تطور على مستوى اجتماعي.

يشير مؤلف الكتاب إلى أن استراتيجية العلاقات الصينية على مستوى اقتصادي واسعة ومتداخلة، من بناء مجموعة الستة عشر زائد واحد التي تضم بلدان وسط أوروباوشرقها إلى تمتين العلاقات مع الدول الإفريقية. لكن خيطا ناسجا يربط بين جميعها، أن الصين رغم قوتها ورغم الضغوطات الهائلة المسلَّطة عليها، فهي على مستوى أول قوة لا تذهب للحرب وتتفاداها،وعلى مستوى ثان لا تسعى إلى فرض نموذج إيديولوجي معين في الخارج، مهما بلغ نجاح ذلك النموذج في الداخل، وإنما تسعى دائما لعرض توغّلها في العالم عبر التعاون والبناء المشترك. ولذلك تعلن الصين باستمرار احترامها ومراعاتها أنماط الحكم السائدة في الخارج.

يولي الكتاب الشخصية السياسة الأولى في الصين -شخصية شي جين بينغ- اهتماما خاصا، فمنذ العام 2012 يمسك الرجلبمقاليد القيادة. يقول إيغناسيو موزو: يمكن القول وبكل تأكيد إن البلد لم يعرف زعيما مؤثرا بعد ماو يضاهي تأثيرشي جين بينغ، فمنذ العام 2017 دخل جين بينغ في عهدة رئاسية ثانية وشهد القانون تنقيحات دستورية يمكن أن تسمح له بعهدة ثالثة أي بما يتجاوز 2022. في مستهل عهدته الثانية يجد شي جين بينغ نفسه أمام تحدّ كبير، في الوقت الذي يتواصل فيه صعود الصين ويزداد ترسّخ التحديث،وإن كانيواجه البلد اختلالا لا يزال حاضرا في المجالالاجتماعي.في واقع الأمر شي جين بينغ شخصية إشكالية، يسود في الغرب انتقاد لسياساته بموجب الطابع السلطوي لمساره المشوببالطابع “الإمبراطوري”، وهو ما يذكِّر بانبعاث الصين مجددامع أباطرة أواخر القرن التاسع عشر، إذ ثمة خشية من الرجل بفعل إنجازاته المذهلة. فقد غادرت الصين معه مرحلة السير في طريق النمو إلى السير في طريق تركيز دعائم الاقتصاد المتطور، وهو ما جعل الصين بلد القفزة التقنية، كما لم يتوان الرجل في إعطاء المبادرة الخاصة شكلا آخر من الحضور والنشاط، بما خلق شريحة تفاخر بما بلغته الصين وما تسير نحوه، وإن تواصلت هيمنة الدولة على قطاعات الاقتصاد الاستراتيجية. لكن في توضيح طبيعة علاقة الدولة بالمبادرة الخاصة النشيطة يقول الكاتب: ينبغي أن نقول إن العلاقة بين نظام السوق والدولة ضمن الواقع الصيني الحالي تبقى غير واضحة. ثمة سيرٌ في هذا الطريق، ولكن ليس بالشكل الرأسمالي الأمريكي، فقد سمحت الدولة بخوض هذاالطريق ولكن وفق ضوابط صينية.

ثمة من يقول مع شي جين بينغانتهت مرحلة الإصلاحات الاقتصادية الجوهرية ليشهد البلد عودةللإيديولوجيا الماوية.لكن في خضم ذلك الاستشرافلمستقبل الصين يعيش البلد اليوم ما يُسمّى “حكم القانون” وليس ما يُعرف في الغرب بـ”النظام الديمقراطي”. كما أنهناك سعيا مع شي جين بينغلترويج صورة للصين ليس كقوة اقتصادية، بل كقوة تعاون وبناء مشترك، وهو ما يغري بالفعل عديد الدول.

وبوجه عام يثمّن الكتاب عديد المظاهر التي تعيشها الصين وينتقد أخرى. فقد بات الحضور الاقتصادي القوي يُخشى أثره العالمي بالسلب وبالإيجاب، أي في حالة تزايد النمو وفي حال تراجعه، وأن حالة الانكماش التي قد تحدث، مظاهرها السلبية أكثر ضررا على الاقتصاد العالمي. ليختتممؤلف الكتاب حديثه بما يشبه النبوءة قائلا: التنافس بين الصين والنموذج الغربي مرشّح أن يبقى على مستوى اقتصادي وألاّ يمتد إلى قطاعات أخرى؛ ولكن أوروبا المرتابة والمأزومة ينبغي أن تجد الشكل المناسبلخوض التعاون مع الصين، وإن لم يحدث ذلك فإن الزحف الصيني قادم لا محالة.

الكتاب: وَرَثة ماو… الاقتصاد والمجتمع والسياسة في عهد الرئيس شي جين بينغ

تأليف: إيغناسيو موزو.

الناشر: منشورات دونزيللي (روما-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’.

سنة النشر: 2020.

عدد الصفحات: 198ص.

أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!