الليل يرخي سدوله ويتمدد طويلاً والجو ربيعي والسكون شبه مخيّم ولربما ينذر بعاصفة قادمة ..
بَدأْتُ أنظر من شباك غرفة نومي الواسعة إلى الخارج فالطرقات متوهجة لكنها فارغة إلّا من دورية متنقلة أو سيارة إسعاف وتاقت نفسي للنزول والمشي وبتُ أصبّرها لخوفي من مصير لا أرغب به كيف لا وأنا رجل القانون أقوم على الدوام بتذكير الناس بعدم الخروج وأكرر القاعدة الذهبية التي تقول “لا جهل بالقانون” فكيف لي أن أخالف والتعليمات تُذاع بمكبرات الصوت عند كل مساء ومع موعد كل نشرة أخبار والأخبار العاجلة وعبر كافة وسائل الإعلام الأخرى وكان لزاماً عليّ أن أصرف التفكير عن النزول لأنه مغامرة وفيها من المخاطر ما لا تُحْمدُ عُقباه …
بدأت التنقل بين غرفة الضيوف والصالون وباقي غرف النوم واستقر بي المقام في المطبخ وصرت أُحضّر لوجبة الغد ورافق ذلك متابعة للتلفاز والرد على اتصالات الأهل والأصدقاء وكلما نظرت إلى ساعة الحائط أجدها تُصرُّ على معاندتي فضاق صدري لبطء حركة عقاربها حتى وكأنها عجوز طاعنة أنهكها الكبر وأعياها الهزل …
يبدو أنني لم أُنجز تحضير طبختي فهأنذا مازلت أحفر حبات الكوسا ويبدو أنه أصابها بركان حطّم جدرانها وباتت على شكل مطلات ونوافذ ولُذْتُ بصمتي لحظة ونهضت مغادراً المطبخ معلناً عدم عودتي إليه هذه الليلة إلى أن يأذن الله باليوم القادم …
وجدت في سريري الواسع فرصة لأبسط أجنحتي وأطرافي وبدت ذاكرتي تعود بي إلى أيام جميلة عشناها تلك أيام الطفولة البعيدة عن الكورونا ولا أدري كيف خطر ببالي كلمات مازالت عالقة في ذهني رغم أنه لم يعد أحد يرددها ورفعت السماعة بالحال وبدأتُ أسأل أمي عن “الثُمنيّة والرُبعيّة والصاعّ والمدّ” لأُثبِّتْ معلوماتي وأفاضت عليّ -“حفظها الله”- بدقة متناهية عن تلك المكاييل وأوزانها بالكليو غرام وسألتها عن النْتاشة والنتّاش وطواحين الماء والحجر التي كانت منتشرة في بعض القرى وكان صاحب الطاحونة يأخد أجرة عينية “بدل نتاشة” ومن يأخذها يُسمّى نتّاش تلك الأيام الجميلة التي كان الناس ينقلون قمحهم الحوراني القاسي على الدوّاب في الصباح الباكر وربما ينام بعضهم في الطاحونة إذا تأخر به الوقت …
وفاضت بنا الذكريات أنا وأمي ووقفت عند أقوال قديمة للشيخ الجليل العكّاوي حيث كان لديه سُلماً خشبياً يعيره للبعض ويرفض إعارته للبعض الآخر وكان يقول حين يرفض طلب البعض ( سامحني لا أقدر على حمله ) وهذا الردّ البليغ يكون للأشخاص الذين لايعيدون ما استعاروه بعد قضاء حاجتهم فيضطر صاحب السُلًم الثقيل الوزن أن يذهب بنفسه ويعيده لذا كان يريح نفسه بجملة “سامحني لا أقدر على حمله” وكان رحمه الله حين يسأله شخص عن شيء ( كأن يسأله شخص هل مرّ أبي من هنا ..؟) فيجيب بحرف (ما ) وكلمة ما تريح خشية ماسيتبعها من أسئلة وكان يقول لاتقعد عند الأكل بجانب الخبز وإبريق الشاي وهذا له معنى عميق وتذكرت أيضاً حين كان عهدي بالمحاماة وليداً ما حصل من موقف أمامي حيث طلب والد الزوجة الحرذانة من زوجها “حناChة” أي بدل ما أكلته عند والدها خلال فترة زعلها وهذا بخل لدى البعض وضرب من ضروب التأديب بحق الزوج لدى البعض الآخر كي لايكرر طرد زوجته وضحكنا أنا والوالدة مع كلمة “الحناChة” حتى بانت نواجذنا ولم يقطع مكالمتي معها سوى صوت “الوي وي وي” وما أن مددت رأسي من النافذة حتى شاهدت الدورية تلقي بالقبض على مخالف بعد أن وُجِدَ متلبساً وهو يقطع الشارع مع مرور الدورية فحمدت الله وأثنيت عليه على أني صرعت رغبتي ولم أنثنِ لها وبدأت أعدّ نفسي للنوم لاستقبال يوم كوروني جديد …