خاص لصحيفة آفاق حرة
ونستذكر اليوم أحدَ أبناء المدينة البررة، لتقليب صفحاتٍ من قصَّةِ نجاحٍ فذٍّ خطَّها الإصرارُ والعزيمةُ والطُّموحُ والمثابَرةُ، نجاحٍ عزَّ نظيرُه في هذا الزَّمان، كان جديرًا أن يناله الدكتور محمد عبد الله قاسم.
أقول مُنْصِفًا: لم تَعرف مدينةُ بصرى الشام ولا حورانُ برمَّتِها عالِمًا في علم العربيَّة بمستوى الدكتور محمد عبد الله قاسم، وأنا مختصٌّ محبٌّ لاختصاصي، التحقتُ بقسم اللغة العربية، وأمامي قدوةٌ ذاع صيتُها، وطار ذكرُها في الآفاق: محمد عبد الله قاسم، الخرِّيج الأول، الذي نال جائزة التفوُّق الدراسي طوال دراسته الجامعية، ونال شهادته الجامعية بتقدير امتياز…
بدأ دوامي في الجامعة، وبدأت أعرف الدكاترة، وتخصصاتهم، وشيئًا من طبائعهم، ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، فتعلَّقتُ بأستاذنا العلَّامة المحقِّق الْمَجْمعيِّ الدكتور محمد أحمد الدالي، العالم النِّحرير الذي لم تقع عيني على مثله، وفي المدرَّج الأول بكلية الآداب، دخل الدكتور محمد أحمد الدالي لإلقاء محاضرته، ومعه الخريج الأول محمد عبد الله قاسم، تولَّى الخرِّيجُ الأول كتابة أبيات الشعر على السبورة، وهي شواهد سيتناولها دكتورنا الدالي بالشرح والتبيان.
وبعد المحاضرة ذهبت إلى مكتب أستاذنا الدكتور الدالي، لأمرٍ يتعلَّق بحلقة البحث، فكان الخرِّيج الأول عنده في المكتب… أيقنتُ يومها جازمًا غير شاكٍّ أنَّ مستقبل محمد عبد الله قاسم لن ينتهي عند حدٍّ من التحصيل العلمي، وأيقنتُ أنني سأراه دكتورًا في الجامعة، وأنَّه سيكون له شأنٌ عظيمٌ فوق شأنه العظيم الذي عرفناه حتى سنة 1997 م.
وسبب هذا اليقين الذي تملَّكني: هو ما يتمتع به محمد عبد الله قاسم من صبرٍ ومثابرةٍ وطموحٍ، وما حصَّله من علمٍ غزيرٍ تختزنه حافظتُه القويَّة، وتشهد به درجاتُه العالية وسمعتُه الشهيرة، فإذا اجتمعت هذه الصفات في طالبٍ، ثمَّ وُفِّق إلى ملازمة عالمٍ بمستوى الدكتور محمد أحمد الدالي، فلا شكَّ أنَّ النتيجة ستكون كما توقَّعتُ.
مضى عامٌ، فحصل محمد عبد الله قاسم على دبلوم الدراسات العليا بتقدير امتياز سنة 1998م، وذاع صيتُه فوق ذيوعه، واشتُهر فوق شهرته، وتعاظمتْ منزلتُه في أوساط طلاب العلم.
وكان أن طمحت دور نشرٍ محترمة تسابقُ غيرها إلى إخراج شيءٍ من العلم الذي حصَّله محمد عبد الله قاسم، فكان معجم «المعتمد» عن دار صادر، سنة 2000 م، وهو سِفرٌ جليلٌ يقع في 806 صفحات، يقول محمد قاسم في مقدمته: (وبعدُ فأنا لا أزعم أنَّ ما صنعتُه في هذا السِّفر المفيد هو الحقُّ الصُّراح، ولكنَّ هذا ما أدَّاني إليه اجتهادي… والحقُّ محرابٌ أتطلَّع للسُّجود في حناياه… والنَّقصُ مستولٍ على جملة البشر) بتواضُع العلماء ودماثتهم، واتِّهام أنفسهم بالتقصير الدائم، ولا تقصيرَ هناك ولا زلل!
ثم في عام 2002 م كانت مناقشته لرسالة الماجستير، ونال محمد عبد الله قاسم درجة الماجستير بتقدير امتياز، في وسط تصفيقٍ حارٍّ من الجمع الغفير، وكان من بين الحضور وفدٌ كبيرٌ خرج من مدينة بصرى الشام إلى كلية الآداب بدمشق، لحظاتٌ لا أنساها، فقد نظرتُ في وجوه الحاضرين، مِن أقارب الباحث وأساتذته في مدارس بصرى وأصدقائه وزملائه وجيرانه وسائر أهل بلده… وعند نفق كلية الآداب حيث يصعد الوفد إلى الحافلة للعَودة، رأيتُ مدينة بصرى الشام تزهو وتتسامى وتشمخ عاليًا، وقد حقَّ لها.
ثم مضت ثلاث سنوات، ليتكرر الموقف في مناقشة رسالة الدكتوراه، وحصل الدكتور محمد عبد الله قاسم على الدكتوراه بمرتبة الشرف سنة 2005م.
﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾، فحصل ما كنتُ توقعتُه في سنة 1997م، وما زلت أتوقع المزيد…
ولعل المقام لا يتسع هنا لأقول كل ما بنفسي، فمثل هذه الشخصية تستحقُّ أن تُفرَد كتبٌ خاصَّةٌ للحديث عنها، وإن كان في العمر بقيةٌ فإنَّني أتطلَّع إلى تأليف كتاب: «الدكتور محمد عبد الله قاسم وجهوده في خدمة العربية»، ولكنني سأشهد الآن في عجالةٍ ببعض ما عرفتُه عن هذا الرَّجل:
امتاز الدكتور محمد عبد الله قاسم بالجدِّ المستمرِّ، والاجتهاد منقطع النَّظير، والتَّصميم الذي لا تخبو شعلتُه، تَحْدوه إرادةٌ صلبةٌ، وهمَّةٌ عاليةٌ، وذهنٌ وقَّادٌ، وذاكرةٌ ألْمعيَّةٌ، وهو قارئٌ نَهِمٌ، يعيش بنظام دقيقٍ، ويسير بخطوات راسخةٍ، مع ما فيه من وفاءٍ، وأصالةٍ، وسماحةٍ، وطيب نفسٍ، وحسنِ معشرٍ، ونقاء روحٍ، وحنان قلبٍ، وعاطفةِ جياشةٍ.