جاءتْ تسألُني :
لِمَ لا تكتبُ عن البلدِ ، أو هل نسيتَ البلد ؟ نسيتَ الجوعَ ، والحرمانَ ، وذاك اليأسَ في عيونِ الشَّبابِ ؟ ألا ترى ما يحدثُ في لبنان ؟
أجبتُها بلغةِ الضَّبابِ ، وبلغةٍ فاترةٍ ، كشتاءِ هذا اليومِ ، أو بلغةٍ شاحبةٍ ، كشحوبِ امرأةٍ تذوبُ دمعاً ، وحسرةً ، من حياةٍ اكتشفتْ متأخرةً ، أنَّها خيانةٌ أو كذب !
يا سيدتي :
لم أعدْ في ذروةِ انفعالي ، ففي أعماقي ألمٌ مجهولٌ ، لم أعدْ أشعرُ بتعاقبِ الأيامِ ، أو تعاقبِ الفصولِ ، ما عادَ أيُّ شيءٍ يُغريني لأكتبَ ، وما عادتْ هذه الثَّوراتُ المُفتعلَةُ ، المُموَّلةُ ، المُزيَّفةُ تسحرنِي ، وتُشعِلُ الحماسَ في داخلي ، فأنا أيقنتُ أنَّنا شعوبٌ بلا إرادةٍ ؛ وكأنَّنا في حالةِ صقيعٍ ، وجليدٍ دائمينِ ، كأنَّنا من سُكَّانِ المُحيطينِ المُتجمِّدَينِ ، فلو ثقبُوا كلَّ طبقاتِ الأوزونِ ، ولو ذابتْ كلُّ المحيطاتِ المُتجمِّدةِ ، وفاضتْ مياهُها على العالمِ ، سنبقى نحنُ في حالةِ صقيعٍ ، وجليدٍ إلى الأبدِ .
يا سيدتي :
أُفتِّشُ عن يومٍ أبيضَ ، في زحمةِ الأيَّامِ السُّودِ ، فلا أجدُ إلا صوتَ امرأةٍ ، تعشقُ اللَّحظةَ كأنَّها الأبديَّةُ بعينِها ، وتنفصلُ عن الماضي ، كأنَّ الماضي خلايا سرطانيَّةٌ ، وبينها وبينَ التَّاريخِ ، طلاقٌ بائنٌ بينونةٌ كبرى .
وأُفتِّشُ بينَ صحرائيَ القديمةِ ، وأشجارِيَ الكسولةِ ، عن امرأةٍ سمراءَ ، مُتسِقةَ القوامِ ، جيدُها المُعطَّرُ برائحةِ الأمسِ العتيقِ ، يتسامى كأنَّهُ موجُ بحرٍ ، أو كأسُ خمرٍ ، أو كأنَّه طيرٌ يُشبهُ الحَمَامِ ، يحطُّ على ضِفافِ نهرٍ ، يُعلِّمُ البحرَ ، معنى العطاءِ ، ويُعلِّمُ البحرَ أنَّهُ أكثر جشعاً من الحُكَّامِ والفاسدينِ ، فهذا البحرُ على كثرةِ مائِه ، يقتسمُ مع الأرضِ مطرَ السَّماءِ .
يا سيدتي :
بتُّ أرى نفسي كالشُّخوصِ الثَّانويَّةِ ، أو كالشُّخوصِ الهامشيَّةِ ، في روايةٍ لكاتبٍ مقموعٍ ، أو كأنَّني شخصيَّةٌ مُضافَةٌ ، في مشهدٍ ، من فصلٍ في مسرحيَّةٍ . والثَّانويِّونَ أو الهامشيِّونَ ، لا يُغيِّرونَ التَّاريخَ ، ولا يصنعونَ الأحداثَ ، ولكنَّهم يصلحُونَ شِعاراً للطبقةِ الفاسدةِ .
يا سيدتي :
أحبُّ أن أختلفَ على مستوى الفكرِ ، والجسدِ ، والعقيدةِ ، والجنسِ ، والدِّينِ مع بعضِ النَّاسِ ، وأُحبُّ أن أحاورَ المُثقَّفينَ ، وأنصافَ المُثقَّفينَ ، وأحترمُ كلَّ وجهاتِ النَّظرِ المختلِفةِ ، غيرَ أنِّي مؤمنٌ باليقينِ ، وهذا الإيمانَ على نسبيَّتِهِ ، وعلى عميقِ فلسفتِه ، هو مفتاحي للشكِّ ، فكلَّما كان يقيني بالأشياءِ أكبر ، كان الشكُّ فيها أكثر .
يا سيدتي :
أعرفُ من أيِّ قِرْبَةٍ يتنزَّلُ المطرُ ، وأعرفُ من أين تأتي البحارُ بكلِّ هذه الأمواجِ ، وأعلمُ أنَّ الشَّواطئَ كالقُرى النَّائيةِ ، أو كقرى الأطرافِ ، يصلُها مدُّ البحرِ ، معطَّراً بأريجِ الغارقين ، لكنَّ الشَّواطئَ تبقى شواطئَ ، لا يأسِرُها موجُ البحرِ فتغرقُ .