آفـــــاق حُـــــــــــرة
بقلم بكر السباتين
فالنيران أوقدت في الهشيم.. وانتهى الأمر.. فهل من عاقل يحاصرها بالسؤدد والرشاد!
في مصر يحدث اليوم ما لم يكن بالحسبان.. فإزاء تداعيات كسر حاجز الخوف جماهيرياً يُلْجَمُ الخطابُ الإعلاميُّ المصريُّ ويُسْحَبُ البساط من تحت أقدام المتذرعين بالإرهاب الإخواني المتهم دائماً بالوقوف وراء أي حراك جماهري مصري يطرأ على المشهد السياسي والأمني، وبالتالي استسهال قمعه أمنياً بغطاء قانوني وبشتى الوسائل المتاحة، وهذا ما لم يحدث إزاء المظاهرات التي خرجت في مصر لليوم العاشر على التوالي احتجاجاً على تردي الأحوال المعيشية وعمليات هدم المنازل، رغم محاولات بعض الشخصيات الدينية المؤثرة وعلى رأسهم شيخ الأزهر الشريف بمحاولة أخونة المظاهرات من خلال رجم تلك الجماعة المحظورة بالاتهامات الجاهزة من باب التضليل الإعلامي وخلط الأوراق، وكان الوحيد القادر على تثوير الشارع المصري هو الفنان ورجل الأعمال المصري المقيم في إسبانيا، محمد علي، تلك الشخصية المستقلة سياسياً، وقد ساعد هذا المحرض في تأجيج الغضب المصري المكبوت، انطلاقه من عمق الوجع المصري دون تنسيق مسبق مع أحزاب المعارضة أو اعتماده على خارطة طريق أو برامج حراكية وأهداف مرحلية كشأن الثورات الأخرى، ويمتلك محمد علي خطاباً سياسياً بسيطاً ومباشراً وواضح المحددات؛ لذلك لم يجد الإعلاميون المحسوبون على النظام ما يساعدهم في رجم المظاهرات بتهم الإرهاب الإخواني أو أنها مطية لأجندات خارجية سوى ما سفه من خطابهم الإعلامي القائم على السطحية والعنصرية المناطقية، من خلال التبخيس بحجم المظاهرات، التي قيل بأنها مجرد تجمعات طارئة وصغيرة انتشرت في القرى المتباعدة والمدن غير الحيوية، وعليه فقد ركز هذا الإعلام المجير للنظام المصري الرسمي على نوعية المشاركين فيها، فقيل بأنهم مجموعات ريفية من الأطفالوالفلاحين الجهلة منلابسي الجلابيب، والنساء المغرر بهن اللاتي شاركن في تعميم الفوضى ووضعن أبناءهن في منطقة الخطر دون مسؤولية.. وإن هذا الحراك الشعبي قد يأخذ البلاد إلى فراغ سياسي مدمِّر لأنه لا يمتلك برنامجاً تغيرياً يكون من شأنه أن يوحي بنضوج المطالب واكتمال رؤية المسار الذي صُوِّرَ من قبل الإعلام الرسمي بأنه دون بوصلة؛ وفي سياق الهجمة الإعلامية المستعرة على المتظاهرين نشر حساب “الأزهر الشريف” عبر صفحته الموثقة بموقع فيسبوك بيانًا بعد التظاهرات، التي شهدتها مصر منذ 20 سبتمبر الجاري، والمطالبة برحيل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وقال البيان المجير بتوقيع الشيخ أحمد الطيب:
“تابع الأزهر الشريف عن كثب الحركات الهدامة الهادفة إلى زعزعة الاستقرار، والإخلال بالنظام العام، والتي تسعى للنيل من أمن مصرنا العزيزة، ونشر الفوضى، وتعطيل عجلة التنمية والاستثمار”.
وتابع البيان:
“ويشيد الأزهر بوعي الشعب المصري في تفويت الفرصة على كل من يخططون لزعزعة الاستقرار في البلاد، مؤكدًا ثقته في قدرة الدولة علي معالجة كافة قضاياها داخليًّا بما يحقق مصالح المواطن ويخفف أعباءه ويراعي احتياجاته”.
طبعاً لم يشر البيان إلى الإجراءات الأمنية المعمول بها في البلاد والتي من جرّائها تمت الاعتقالات عن جنب وطرف على الهوية الحزبية وتهمة الأخونة والإرهاب جاهزة ومصير من يتعرض لها الهلاك مادياً ومعنوياً.
وازدادت الظروف الأمنية تفاقماً على خلفية المظاهرات الأخيرة.. حيث قامت أجهزة الأمن المصرية بتغيير قواعد الانتشار، فبعدما كانت تحرص في السابق على نشر التمركزات الأمنية عند مداخل المحافظات، لمنع تجمع المواطنين في الميادين الكبرى بعواصم المحافظات، نشرت وزارة الداخلية تمركزات أمنية مدعمة بعربات مصفحة وعربات أمن مركزي وسيارات الانتشار السريع عند مداخل ومخارج القرى والمراكز ومصادرة الهواتف النقالة ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي بإحكام، وذلك منعاً لخروج أي تظاهرات في تلك المناطق، بعدما أدركت أن ما تشهده البلاد من موجات غاضبة لا تحمل طابعاً سياسياً أو تحريكاً من جانب أطراف سياسية، وإنما تمثل غضباً شعبياً متراكماً جراء مجموعة من القرارات الحكومية التي طاولت تبعاتها الطبقات الفقيرة.. وانتشرت التمركزات الأمنية على الطرق السريعة والطرق الرابطة بين المحافظات، كما حرص مديرو الأمن بالمحافظات المختلفة على القيام بجولات تفتيشية على أقسام الشرطة في ساعة مبكرة من صباح الجمعة، للوقوف على إجراءات التأمين، في ظل حالة استنفار قصوى في أجهزة وزارة الداخلية تحسبا لأي احتجاجات أو فعاليات غاضبة.
وتأتي هذه التطورات في وقت شنت فيه الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة، فجر الجمعة الماضي، في صفوف المعارضة ضمن إلإجراءات الرامية لمواجهة دعوات التظاهر.. وقد أعلن عن اعتقال 380 مواطناً مصرياً حتى الآن.. وسقوط قتيل واحد، والأرقام مرشحة للتزايد وفق الظروف التصعيدية للمتظاهرين الذي طفح الكيل لديهم فنزلوا الشوارع مرغمين وبدوافع الظروف القاسية.
وتشهد البلاد منذ عشرة أيام موجة احتجاجات عقب دعوات التظاهر التي أطلقها رجل الأعمال محمد علي وتبناها عدد كبير من قوى المعارضة دون الظهور في سياق المظاهرات حتى لا تجيّر لصالح أجندات خارجية فيمنحون الأجهزة الأمنية مبررات سحقها.
وجاءت المظاهرات في أعقاب قرارات بإزالة وهدم مبان قالت الحكومة إنها بنيت بالمخالفة لقوانين البناء، وأقرت الحكومة غرامات باهظة للتصالح لتجنب هدم المنازل.
لقد فتشت هذه العوامل الطارئة عن كل الملفات الداخلية العالقة، التي رفعت من سقف المطالب الجماهيرية .. ويمكن حصرها في المحاور التالية:
– الملف الصحيوفشل الحكومة المصرية في التعامل مع انتشار جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19).
– الملف الاقتصادي الاجتماعي، وتفشي ظاهرة الفقر حيث ذابت الطبقة الوسطى في الطبقة الدنيا لهبوط معدلات المعيشة إلى أدنى مستوياتها؛ بسبب تحرير سعر صرف الجنيه المصري، والذي تمَّ بجرة قلم في الثالث من نوفمبر 2019، ما أدى إلى انخفاض سعر الجنيه بنسبة 100%، بحيث صار الدولار، بين عشية وضحاها، يساوي 18 جنيهًا مصريًا، بعد أن كان يساوي 8،8 جنيهًا. وكشف البنك المركزي المصري عن ارتفاع الدين الخارجي لمصر نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بنسبة 17.7% إلى 109.4 مليار دولار، مقابل 93.1 مليار دولار نهاية سبتمبر/أيلول 2018.
كما أظهرت بيانات البنك ارتفاع الدين العام المحلي بنسبة 7.7% على أساس سنوي إلى 4.186 تريليون جنيه (نحو 266 مليار دولار) بنهاية سبتمبر 2019، مقابل 3.887 تريليون جنيه (نحو 247 مليار دولار) بنهاية سبتمبر 2018، بزيادة بلغت 298.2 مليار جنيه.
وبحسب النشرة الإحصائية الشهرية التي أصدرها البنك عن شهر يناير الجاري، ارتفعت أعباء خدمة الدين الخارجي خلال الربع الأول من العام المالي الحالي (يوليو– سبتمبر) إلى 2.94 مليار دولار، من 2.25 مليار دولار خلال نفس الربع من العام الماضي بزيادة بلغت 695 مليون دولارا، بنسبة 30.9%. وبالتالي تفشي ظاهرة الفقر. زد على ذلك تنفيذ مشاريع عملاقة فاشلة كبدت الدولة خسائر مادية وتدني في دخلها مثل تفريعة قناة السويس.
ناهيك عن تحَوُّلْ الجيش المصري من دوره الأمني الدفاعي المنوط به، إلى مؤسسة اقتصادية صناعية زراعية خدماتية على حساب القطاع الخاص الذي حرم من أفضل الفرص التنافسية أمام احتكار الجيش لكافة القطاعات، وانعكاس ذلك سلبياً على المواطن المصري الذي تحول إلى مجرد مستهلك لا يملك قوت يومه.. فالجيش أصبح عبئاً اقتصادياً لأنه تبنى دور القطاع الخاص الاقتصادي فأضر بمستوى المعيشة فصار عرض منتجاته يفيض عن قدرات المواطن الشرائية؛ وبالتالي ضربت روح المنافسة وتعثرت التنمية في جوهرها وإن بدت شكلياً للعيان تقدماً مثيراً للإعجاب، ومادة إعلامية يتشدق بها الإعلام الرسمي.
– أما الناحية الأمنية فقد أخذت التصادمات هذا الملف المفتوح منذ مجيء السيسي إلى الحكمنحو طريق مسدود. بسبب غياب الحوار بين الأحزاب المعارضة والحكومة، وإخفاق االجيش في اجتثاث الإرهاب في سيناء، ومحاولة شيطنة المعارضة إعلامياً؛ لتعليق الأزمات على شماعتها.. كل ذلك أدى إلى مواجهة إعلامية شرسة بين الطرفين.. المعارضة من جهتها تتهم الدولة وعلى رأسها الرئيس السيسي بالفساد والدكتاتورية، فيما ترى الحكومة أن جماعة الأخوان المسلمين المحظورة تتربص بالدولة وتشكك بإنجازاتها على صعيدين: ميداني وإعلامي.. انطلافاً من منصات المعارضة في تركيا وبريطانيا.
في المحصلة أدى كل ذلك إلى تضييق الخناق على الشعب فأصيب بفوبيا الخوف من المستقبل إلى أن جاء هذا الحراك ليوقظ الروح المصرية ويكسر حاجز الخوف وفق تقديرات المراقبين.. وهو ما أشار إليه محمد علي معتبراً ذلك هدفاً استراتيجياً للحراك العفوي غير المسيس.
وقد تفاعل مصريون على منصات التواصل الاجتماعي مع وسم “مليون تحية للجلابية” الذي دشنه ناشطون للإشادة بدور المتظاهرين في القرى والمناطق المهمشة، رداً على محاولات إعلاميين ومعلقين موالين للسلطة للتقليل من شأن المتظاهرين والاستهزاء بالحراك.
وأثنى الناشطون على شجاعة المتظاهرين في القرى وثباتهم إزاء القمع والاعتقالات.
من ناحية أخرى، تظاهر مصريون في الخارج يوم السبت الماضي تضامناً مع الحراك الذي تشهده قرى ومدن مصرية.
ونددوا بعمليات هدم البيوت والمساجد ودعوا إلى تواصل الحراك في الخارج دعماً للمتظاهرين في المدن المصرية، كما طالبوا بالإفراج عن المعتقلين السياسيين والحفاظ على مسار الثورة المصرية.
ما زال الحراك في بدايته، والسيسي يعترف بالحراك الشعبي ضده لكنه يرى أن الهدف ليس الإصلاح بل هدم الدولة.. وأكد السيسي رداً على مظاهرات الجمعة الماضية أن هناك من يحاول استغلال “الفقر” والصعوبات المالية التي يعاني منها المواطنون من أجل “تشكيك الناس في الإنجازات” التي تقوم بها الدولة.
وشدد على أن “الأمن والاستقرار” هما شرط أساسي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاستمرار في الإصلاح في إشارة بأنه لن يحني رأسه للريح أمام موجات التظاهر التي تطالب برحيله وتعتبره أس الفساد.
من جهة أخرى دعت “الحركة المدنية الديمقراطية”، وهي تجمع يضم أحزابا مصرية يسارية وليبرالية معارضة، إلى حوار شامل لبحث الأزمة في البلاد، ومطالبة السلطات بالإفراج عن الموقوفين خلال المظاهرات الأخيرة وإطلاق الحريات. وفي سياق هذه الأحداث المتفاقمة يطرح السؤال نفسه:
ماذا لو تفاقمت المواجهة بين الطرفين ! وأفرطت الأجهزة الأمنية باعتماد الخيار الأمني، بعيداً عن أية حلول سياسية وحوارات وطنية مفتوحة بين الأحزاب يدخل في سياقها إطلاق سجناء الرأي غير المشروط في دولة يعتبر الفساد فيها أعمق من كل الحلول كما يرى مراقبون، فيما يرى الموالون أنها دولة ناهضة تتحدى الصعاب لوضع مصر في مكان يليق بها وفق معايير معقدة! الإعلام الرسمي يبيع الأوهام والشارع يفتح الملفات الحقيقية والحقيقة تضيء النهار! فمتى يضع قادة مصر يدهم على الجراح بشجاعة حتى لو أدى ذلك بهم إلى التنازل عن السلطة قبل حدوث مفاجآت غير مضمونة! فالنيران أوقدت في الهشيم.. وانتهى الأمر.. فهل من عاقل يحاصرها بالسؤدد والحكمة! عجبي!
29 سبتمبر 2020