لآفاق حرة
ساعة البازار
بقلم. نجم الدين سمّان
ما أن استقرَّ جدّي نجيب أفندي الساعاتي في إدلبَ؛ قادماً مِن حَلَب؛ وافتتحَ دُكَّانَهُ في أولِ “سوق الصَاغَةِ” حتى بدأ الأدالِبةُ.. يسألونه:
– شأَدّ الساعة.. يا أفندينا ؟!.
فيُجِيبُ مَرَّةً ولا يُجِيبُ مرَّاتٍ؛ حتى فَقَعَت مَعُه؛ حينَ علّقُ أحدُهُم على جَوَابِهِ: – متأكِّد.. يا أفندينا ؟!.
فانبرى له على بابِ دُكّانِهِ:
– شو بدّك بالساعة؛ رُوح شُوف أصحابَك بين العَصر والمِغرِب.
فَرَدَّ مَن سألَه: – أَشُو كَفَرنَا لمّا سألناكَ.. يا أفندينا.
هَمَدَ نجيب أفندي.. ثمَّ خطّطَ على ورقةٍ العبارةَ التالية:
– لا تسألونا عن الساعة.. حتى قِيَامِ الساعة !.
فلمّا دخلَ أحدُهُم دُكَّانَهُ؛ بينما هو مُنشَغِلٌ بإصلاحِ ساعةٍ بينَ يديه؛ قائلاً:
– شُوف لنا إيّاها.. يا أفندينا.
سألَهُ نجيب أفندي وهو مُنكَبٌّ على عمله؛ يضَعُ عَدَسَةً مُكبِّرةً حولَ عينهِ اليُمنى.. مُغلقاً يُسرَاها: – عَم تُسَبِّق.. ولا تقصِّر ؟.
– عَم تقصِّر كتير يا أفندينا؛ يمكِن العِلّةَ فيها.. أو مِن البَغل.
عند سماعِهِ كلمةَ: البغل؛ رفعَ نجيب أفندي رأسَهُ.. نَازِعاً المُكَبِّرَة؛ فرأى سِكّة فلاحةٍ تملأ دُكَّانَه الصغيرة.. فقال:
– العِطل مو بالسِكِّة ولا بِالبَغل؛ العطل بالنَغِل صاحب البَغِل.
ثمّ نهضَ يضرِبُهُ بمَكَشَّةِ الذُبَابِ.. حتى أخرَجَهُ من دُكَّانِه.
عَلَّقَ المُفتي على الحادثة: – الحقّ عليك يا نجيب أفندي؛ عَرفَكَ الأدالبةُ من نُقطَةِ ضَعفِك؛ فأخذوا يلعبون عليها؛ طلباً للمُزاحِ والتسلية.
– وما نُقطَةُ ضَعفي؟.
قال المفتي: – أنت نَرفوزٌ؛ وفَتِيلًةُ صَبرِكَ قصيرة؛ أغلقتَ دُكَّانتك أسبوعاً بعد الحادثة.
فَرَدَّ نجيب أفندي: – أغلقته لتشهدوا المُفاجأة؛ بَلِّغ مَن ترَاهُ مُناسِباً لحضورها؛ بَلِّغ القائمقام.. إذا أردت.
فلمَّا خَرَجَ الناسُ من صلاة الجمعة؛ مِن جامِعِ الشيخ بُرغُل في ساحة البازار؛ رأوا نجيب أفندي قادماً وعلى يمينه: حَمَّالُ؛ وعلى يسارِه حَمّالُ وقرب جدار الجامعِ وَضَعَ “السلّاتَةَ” وهي سلالِمُ مُثلثةٌ كالهَرَم الصغير؛ يستخدمها الأدالِبةُ لقطف زيتونهم؛ صَعَدَ عليها أحمد شيخ الحدّادين مُثبِّتاً بمَسامِير الحديد.. كتلةً بيضويّة؛ ذاتَ وَجهَينِ من الحديد.. ولها عقاربُ خشبيّة.. تبدو من وَجهَها الشرقيّ؛ و من وجهها الغربيّ. ثم صَعَدَ نجيب أفندي فجَذَبَ سِلسِلةً تتدلّى مِن بَطنِ الصَاجَين.. واضِعاً أذنَهُ بالتتابُع على هذا الوَجهِ وذاكَ الوَجهِ.
بعد دقيقةٍ.. أشبَهَ بالدَهر؛ لم يعرِف المٌتحلقونَ حَولَهُ ماذا يفعلُ.. تَكتكَت الساعةُ بصوتٍ لا يُكاد يَسمَعُه سِوَاه؛ ثمّ استدارَ نحو جموعِ الناس.. قائلاً:
– لم نُكلِّف خزينةَ الدولة شَروَى نَقِير؛ فكلُّ ما تَرَونَهُ مِمَّا بينَ يدينا: صاجان لخُبز التنُّور.. صنعنا منهما مينائَهَا؛ وتبرَّعَ شيخُ الحدّادين بِلِحَامِهَا مَشكوراً؛ وشيخُ الخطّاطين برَسمِ أرقامِها؛ وشيخُ النجَّارين بعقارِبِهَا؛ وبهذا فإنَّ ساعةَ البازار الإدلِبيّةَ حَلالٌ.. بِجُهدِ أبنائِهَا؛ فلا تسالوني بعد الآن عن الساعة؛ وعلى هذا.. نَحمَدُ اللهَ ونشكرُه.
بعدَ أسبوعٍ.. أسَرَّ جَدِّي للمُفتي: – أصابَنِي مَلَلٌ شديد.
– ولماذا.. يا نجيب أفندي؟!.
– لم يَعُد أحَدٌ يتغالَظُ.. ويسألني: شأَد الساعَة يا أفندينا ؟!.
*- في الصورة.. يبدو جامع “الشيخ برغل” في ساحة البازار حيث علّق جدي ساعته على الواجهة الحجرية يسار الصورة.. ثم توقفت الساعة عن العمل بعد موته؛ ثم أزيلت.. وبُنِي في الساحة بُرجُ ساعةٍ حديثةٍ بأربعة وجوه.. وما تزال.. حيث شهدت الساحة أولى المظاهرات في إدلب ضد بشار الأسد؛ وبعضُهم أطلق على الساحة اسم: ساحة الحرية.