وقفة على كتاب فراش دافئ/ بقلم:الكاتبة ياسمين الصيرفي

فَراش دافِئ بالنسبة لي هو نقطة التحول من ياسمين المكونة من دم ولحم إلى ياسمين المخلوقة من روح وقلب، أسميتهُ فَراش دافِئ؛ لأنني لطالما فضّلتُ أن تكون مكنونات روحي مثل الفراشات، تستطيع التحليق في كل مكان، والطيران أيضًا في السماء، حتى لو كانت السماء المتاحة لمكنونات روحي تساوي في ارتفاعها شجر الليمون الموجود في حديقة منزلنا، ولأنّ الطقس يبرد كل ما ارتفعت الفراشات بالتحليق عن الأرض، اخترتُ لها وصف دافِئ، لأنني  أريد لها تلك الخاصية وأريد أن تحصل عليها باستشعارها الدفئ من خلال عظمة إنجازها.

فالكاتب الجيِّد لا يمر في حياة الآخرين مرور الكرام، هو من يكتب عن نفسه بطريقةٍ ليست فقط مقبولة، بل بطريقة متميزة تجعل القارئ مندهشًا لرؤية أسرار قلبه ومكنونات روحه في ورقة كانت بين يديّ هذا الكاتب، هو من يطوِّع موهبة الكتابة في سبيل التفريغ النفسيّ والعلاج والتعافي، لأنَّ الكتابة بالأصل – وبطبيعتها الملوكية -، واحدة من طرق العلاج بالفن، ولأنني أحب الفن وأحب أن أكون كاتبة صالحة لا أريد أن أمر في حياتكم مرور الكرام، فإليكم يا أبناء الأرض، خذوا من الألم ما يصقل عقولكم، ثمّ خذوا من قباحة الحياة ما يهذب قلوبكم، واعلموا أنّ الفن وحده سيسكب طنين الطقس في قواقع آذانكم وسيحوله أيضًا لموسيقى عذبة.

فهنا فقط سيعم خير الحرف وستتحد الكلمات في صفوفها لتنسج حرزًا نفسيًا يحمي المرء من شعوره بالوحدة.

ستجدون في هذا الكتاب الكثير من الموضوعات المجتمعية، مثل الحب والفراق والموت والطلاق والاحتلال واللجوء، اللي أناقش آثارها وأبعادها النفسية نقلًا عن إحساس الآخرين الذين مرّوا في حياتي وشاركوني مشاكلهم ومشاعرهم وكانوا مصدر إلهام جيِّد لكاتبة كادت على وشك فقدان الشغف لولا أن مرُّوا هؤلاء في حياتها.

أسئلة دوّنتها في دفتر الملاحظات الخاص بي، وكانت بوقعها عليّ، شعلة طاقة ومصدر تحفيز لكتابة الكثير من النصوص الباكية في فَراش دافئ، أو حتى النصوص التي تلبس ثوب الحزن الفَرِح.

سألتني صديقتي في أحد الأيام كيف أتخلص من شعوري بالحزن الناتج عن تفكك رابط عائلتي وعن غياب والداتي، فكان جوابي لها أن تطلق سراحَ الحزن في نص بعنوان ( مزحة ):

 

كان يا مكان

في بيتٍ زُهِقَت روحه

كان لي أب حقيقيّ

وأم مكللةٌ بالمجاز المُشتهى

أبي وأُمّي في ذات الأزمان

وفي الشرفةِ فاقدةَ الأمان

وَقّعا وَرَقةَ طلاقِهما

فقالت لي أُمّي:

الطلاقُ ليس سيِّئًا كما تظُنين

وقال لي أبي:

أصدقاؤكِ لديهم بَيتٌ واحدٌ

وسيكونُ لك بيتانِ يا محظوظة.

 

ظلَّت غُرفتي في بيتِ أمّي كما هي

وجهّزَ لي أبي غُرفةً في بَيتِهِ الجديدِ، الذي لا نعرفه

لا أنا ولا هو

بمِنشارٍ قديمٍ مهترئٍ

تذوّق صدأهُ طعم عنقي بشهوةٍ

ثمّ بنشوةِ حدس الحواس

قَسَما جسَدي إلىٰ نِصفَينِ.

تركتُ نِصفي الأيسرَ عِندَ أُمّي

حَيثُ العينُ اليُسرَىٰ

والذِّراعُ اليُسرَىٰ

والقدَمُ اليُسرَىٰ.

وأظافر يدي اليسرى

التي قضمتهما ثلاثة وعشرون سنة وأربعة أوتار وزند معتق بالموسيقى البالية

وذهَبتُ بعَينِي اليُمنَىٰ

وذِراعي اليُمنَىٰ

وقدَمي اليُمنَىٰ

وقلب خفيْ

معَ أبي.

لكنَّ أبي كان يصفَعُني

لو حدَّثتُهُ عن اشتِياقي

إلىٰ نِصفِهِ الآخَر.

وأُمّي كانَت تَحبِسُ نِصفِي

داخِلَ غُرفةٍ مُغلقةٍ

كي لا يجتَمِعَ بالنِّصفِ الذي يَملِكُهُ أبي.

أمّا مُدَرِّب الكمان خاصتي

فَقَد رَفَضَ انضِمامي إلىٰ فَريقِ العزف

بِدَعوَىٰ أنَّهم يَحتاجونَ إلىٰ عازفة تملك ذراعين

ذراع تحتضن الكمان

وأخرى تساعد الآرشيه على الرقص فوق الأوتار

وتَرَكَني حبيبي

لأنَّ حضني لا يكُونُ دافِئًا

بذِراعٍ واحِدةٍ.

ظلَّت عَينِي اليُمنَىٰ تبتَسِمُ لأبي

وعَينِي اليُسرَىٰ تبتَسِمُ لأُمّي

لم أستَطِعْ أن أقولَ لهُما:

أنني

لديَّ بَيتانِ

وغُرفَتانِ

وسَريرانِ

لكِنَّ رُوحي تنامُ في الشارعِ

 

وسألتني في ذات الأيام التي كنتُ أتدرب بها في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية مريضتي بعد ما كانت تسرد لي بعض من أحداث طفولتها، كيف يمكنني أن أعود طفلً لا تحمل في قلبها سوى فكرة اللعب؟

فكتبتُ حينها نص بعنوان (الأسوانة المألوفة):

 

 

كان والدي يقول

أنّني سأكبر وسأصيرُ ستّ البنات

وسأكون حبيبته

قبل أن يخطفني موسم الحب لأزهاره

و كانت أمي تردّد خلفه

لن تكون كذلك يا زوج السيدة نون

بالأصل هي مجرد غلطة…

تمنّيت أن أكبر بسرعة

لأكون كما وعدني والدي

ولتكف أمي عن قتلي بكلمة  ( غلطة )

كبرتُ….

حتى صرتُ أخفي شعري عن الرجال

وتوقّفتْ أمّي عن إرسالي إلى الشارع

لِألعب  (الغميضة ) مع أولاد الجيران

لكنها كانت تُسقط حبّات الكعك في سلة العيد

تجعلني أحملها رغم فرط ثقلها

وأدق باب الجيران

إنها ترسلني للألم بيديها!

ثمّ كبرتُ أكثر

حتى صار عندي حبيب غير مرئي

أحدثهُ صباحًا مِنْ أعمق طبقة تحت السرير

مثل الأشباح تمامًا

وأذكر أنني ذاتَ يوم

رفضتْ أن أُقبّله

لأنّه بخل على روحي بجرعةِ صوته التي أدمنتها

في أوّل موعد لنا،  الموعد الذي لن يأتي

كان ( قرصون ) المطعم ينظر إلى حبيبيّ بخباثة

كأنّ حبيبي يواعد أخته

ثمّ كبرت كثيرًا كثيرًا

وصرتُ ألعب ( الغُمّيضة ) مع الحظ

بدلًا عن أولاد الجيران

أعدّ للعشرة حتى أنظر خلفي

فيختبئ حبيبي بمكان خارج نطاق اللعبة .

الآن أنا عجوز عشرينية

وأفكّر جديًّا وبكامل قلبي

بالتبرع بعُمري

لأيّ طفل تمنّى في أحد الأيام أن يكبر !

 

وفي أحد الأيام عندما كنتُ أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت، شاهدتُ بالصدفة صورةً لشاطئ يافا، فاشتقتُ لفلسطين، واندثرت في روحي معاني الهوية والنصر، فكان هذا النص الشعريّ جوابي لنفسي، عن كيف يعرف المرء منا وطنه دون أن يراه، ( شاعرة تتجمّل بالأمل ):

 

حلمتُ بريحانكَ

ثمَّ استيقظتُ للتوِّ مفتشةً عن الحلم

يودُّ الفاقدون بلادهم

لو أنَّ سنونوةٍ ما تحملهم إليها

أسميتكَ يا حلمي وطن

بطاقة تعريفٍ ضائعةٍ

تتشبث بطرف الثوبِ العنيد

أسميتكَ يا حلمي وطن

لعلَّ برتقالاتِ يافا

تكبر خلف عتق النوافذ

وتحملني إلى قلبكَ الأزرق

كما لو أَنّ الفصول لم تقلبهُ

كما لو أَنَّ الخريف أسقط عنكَ ملامح السفر

لعلِّي أستقرئُ من بين خطاكَ الثقيلةَ إليَّ دهشةَ الأمِّ بغلامها الشهيد

وتسأل جلدَ غلامها الملطخ بسقيا الدمِ

أينَ تُدْفَنُ الروح

يا مَنْ ليسَ للروحِ سواك؟

ولماذا أذكرُ الموتَ الآنَ  مناضلةً باسمهِ الحياة

هل الموتُ يا وطني الخَلاصُ من بيَّاراتك؟

هذا القلب المنوَّط بأهازيج سنونواتكَ لا يكفُّ عن حبك

هذه العروبةُ التي تصبحُ عليها سماءكَ لا تتوقف عن إيلامنا

عن إيلام قصيدة شاعرة تتجمَّل كل صباح بالعَروض

في داخل صدرها بركانًا ، كل يومٍ مئات المعاركِ يخوض

هيَ تفجَّرُ من رحمها مخاضَ الحب

هو يكشفُ عن صدرهِ وشمَ الخرائط

وحبهما بوصلةَ الطريق

حبهما يتسربلُ ثوبًا أنيق

ثوبًا مرصعًا بألوان الوطن

ثوبًا منسوجًا من قصائد قديمة على مقاسِ عمان

أزرارًا عملوسةً

تنزلق عنها كل كآبات البلاد

جيوبًا موزعةً في البنانِ تخبئُ في جوفها الهويّة

نسيجًا مخمليًا يخبركَ بأنّكَ عربيَّ الفؤاد فلا تخضع

قِفْ وتسمَّر كصفصافةٍ شامخةٍ لا تهاب الكرى

مُتْ فيهِ متسمِّرًا

قبِّلهُ

دَعْ شموسهُ نزيلةَ شباككَ المكسور

قُل لي كيف كنتَ تقبِّلُ بلادكَ

أقُل لكَ مَنْ تكون

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!