كيفية هدم شعب لنفسه من خلال إظهار أمراضه المجتمعية
بقلم. مرفت البربري. مصر
في أي مجتمع، تعد القيم الاجتماعية والهوية الثقافية من المقومات الأساسية لبقاء الأمة وتطورها. ومع ذلك، عندما يبدأ الشعب في تسليط الضوء على أمراضه المجتمعية، سواء كان ذلك عن قصد أو بدون قصد، فإنه يعرض نفسه لمخاطر هدم بنيانه الداخلي وتهديد استقراره الاجتماعي والاقتصادي. قد يبدو أن النقد وتسليط الضوء على المشاكل هو خطوة نحو الإصلاح، لكن عندما يصبح هذا النقد مجرد أداة للانتقاد الهدام، فإن المجتمع يدخل في حالة من التفكك، وهو ما يضعف من قدرته على البقاء والتطور. يمكن تلخيص هذا الهدم في عدة جوانب تتعلق بالتحلل الاجتماعي، ضعف الوحدة الوطنية، وتدمير الثقة بالنظام الاجتماعي والاقتصادي.
التركيز على إظهار الانقسامات والتمييز داخل المجتمع هي أحد أبرز صور هدم الشعب لنفسه ، سواء كانت عرقية، دينية، طبقية أو جغرافية. عندما يُركز على هذه الفروق ويتم تعزيزها في الخطاب العام أو الإعلامي، تصبح الوحدة الوطنية في خطر.
الشعب الذي لا يستطيع تجاوز خلافاته الداخلية وتقديم مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية أو الفئوية يصبح فريسة سهلة للتفكك.
تاريخياً، شهدنا العديد من الأمثلة على كيفية تدمير المجتمعات عبر تغذية الانقسامات الداخلية. على سبيل المثال، الحروب الأهلية التي نشبت في بعض الدول العربية والإفريقية كانت نتيجة للتمسك بالهويات الفرعية وتهميش الآخر، أو إظهاره بالأقل وطنية، تفكيك هذه الهويات الوطنية يصيب المجتمع بالضعف، ويجعل من الصعب بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية قوية. التنافس بين الطوائف، أو الفئات العرقية أو المناطقية، يعزز من الشعور بالعداء، ويقضي على أي محاولة للتعاون، وقديما قالوا فرِّق تسُد، فليس هناك سبيل للاحتلال الفكري أفضل من تفكيك المجتمع من الداخل.
وايضا نشر الفساد وفقدان الثقة في المؤسسات، إذا بدأ الشعب في الإصرار على إبراز الفساد المستشري في مؤسساته الحكومية، التعليمية، والصحية دون وجود مساعٍ حقيقية للإصلاح، فإن ذلك يؤدي إلى تآكل الثقة في قدرة الدولة على حماية مصالح مواطنيها. ضعف الثقة في المؤسسات يؤدي إلى عزوف المواطنين عن المشاركة الفاعلة في الشأن العام، مما يعزز حالة من التدهور الاقتصادي والسياسي.
المجتمع الذي يتغاضى عن الفساد أو يروج له بشكل غير مباشر يعزز من تدهور الأوضاع الاجتماعية. إن فقدان الثقة في المؤسسات يؤدي إلى انعدام الانتماء الوطني. يصبح الناس غير مهتمين بمستقبل وطنهم، مما يدفعهم إلى الانسحاب من عمليات الإصلاح والتنمية. هذا الخمول المدني يعزز من استشراء الفساد، ويغلق الطريق أمام أي تحسن أو تطور حقيقي، وكذلك إظهار أي فساد على أنه هو الأصل وأن استقامة المسؤولين مشكوك فيها بالكامل ، يهدم ثقة المجتمع بنفسه ويحض على انتشار الفساد وتنتشر مقولة(ما الكل فاسد جت عليا ).
على العكس من الاعتراف بالأمراض المجتمعية، يساهم إخفاء أو إنكار المشاكل في تأجيجها وتفاقمها. عندما يتجنب المجتمع معالجة مشاكله الرئيسة مثل البطالة، الفقر، أو العنف الأسري، فإنه يسمح لهذه المشاكل بالاستمرار في النمو والانتشار.
إن ترك هذه المشكلات تتفاقم يمكن أن يؤدي إلى تدهور الصحة العامة، وزيادة معدلات الجريمة، وتدني مستوى التعليم. يؤدي هذا إلى تدمير الأجيال القادمة، حيث يصبح من الصعب على الأفراد الوصول إلى إمكاناتهم الكاملة عندما يُحرمون من الموارد الأساسية التي يحتاجون إليها. كما أن إخفاء المشكلات يجعل من الصعب تطبيق السياسات الفعالة لحلها، وهو ما يحول دون تحسن المجتمع بشكل شامل.
يتعرض مجتمعنا المصري لموجات من التشكيك في القيم والثوابت التي كانت تميزها عبر التاريخ. عندما يفقد الشعب ثقته في قيمه الأساسية مثل العدل، الأمانة، والمساواة، الاخلاق، يصبح من الصعب على أفراد المجتمع العمل معًا لتحقيق المصالح المشتركة. هذا التشكيك قد يؤدي إلى تفشي فوضى اجتماعية حيث لا يكون هناك اتفاق حول ما هو صواب أو خطأ، وهو ما يجعل البناء المجتمعي هشًا، فنجد أن المُثل العليا أصبحت بلا قيمة حقيقية لاستبدال قيمة المال بقيمة الخلق القويم، فيكون الناجح هو من يستطيع جلب مال أكثر دون النظر للوسيلة أو القيمة الأخلاقية التي هي سبيله لجلب هذا المال .
إن فقدان الثقة في القيم المجتمعية يمكن أن يقود إلى تراجع في سلوك الأفراد، حيث يصبح كل شخص يسعى وراء مصلحته الشخصية فقط. وتصبح المؤسسات الاجتماعية، مثل الأسرة والمدارس والجامعات، عاجزة عن خلق شعور بالانتماء الوطني أو المساهمة في بناء هوية وقيم أخلاقية موحدة يؤدي ذلك إلى ضعف التعاون بين الأفراد والقطاعات المختلفة داخل المجتمع، وهذا وجدناه بعد طغيان القيم السيئة في المجتمع وأصبح الأبناء يهزأون بالتربية الأخلاقية التي يحاول الآباء والأمهات تنشئتهم عليها.
النقد البناء هو أداة هامة لتحفيز التغيير والتحسين، ولكن النقد الهدام الذي يركز على إبراز السلبيات دون تقديم حلول أو تشجيع على العمل المشترك يمكن أن يكون سامًا للمجتمع. إذا تحول النقد إلى مجرد أداة لإظهار ضعف المجتمع، فإن ذلك يضر بالروح المعنوية للشعب ويزيد من الإحباط العام.
يمكن أن يصبح النقد الهدام أكثر خطورة عندما يتم استخدامه كأداة للهجوم على الآخرين بدلاً من محاولة تصحيح الأوضاع. في هذا السياق، يسهم البعض في تعزيز السلبية بدلاً من الإيجابية. إن تشجيع التفكير السلبي والمبالغة في إبراز المشاكل دون تقديم حلول لا يؤدي فقط إلى نشر الإحباط، بل يعزز من اليأس الذي يجعل من الصعب على المجتمع المضي قدمًا.
تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام في العصر الحديث. في حال تم استغلال هذه الوسائل لنشر الأخبار السلبية أو المبالغة في تصوير الأمراض المجتمعية، فإن ذلك يعزز من مشاعر القلق واليأس بين الناس. وسائل الإعلام التي تروج للأزمات بدلاً من الحلول لأنها لا تملك الحلول أو أنها لا تريد أن توجه لها ، فهي تساهم في خلق حالة من الانقسام الاجتماعي والركود الفكري.
من السهل اليوم الوصول إلى الأخبار السلبية عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. هذا الانتشار السريع للأخبار يمكن أن يؤدي إلى تشويه الواقع وتعزيز مشاعر الفوضى. إذا كان الإعلام يتناول المشاكل من زاوية الاستعراض دون تقديم حلول، فإنه يساهم في تضخيم الأزمات بشكل يخرجها عن نطاق السيطرة. على العكس، عندما يتم تقديم الأخبار بشكل موضوعي ومتوازن مع تسليط الضوء على النجاحات والإصلاحات، يمكن أن يساهم الإعلام في توجيه المجتمع نحو التحسن والتقدم.
عندما يفقد الشعب اهتمامه بالمشاركة الفاعلة في شؤون مجتمعه ويفضل الانكفاء على نفسه أو التفرغ لقضاياه الفردية، ينعكس ذلك سلبًا على تطوير المجتمع ككل. الثقافة المدنية تشجع على التعاون والعمل المشترك من أجل المصلحة العامة، بينما غياب هذه الثقافة يترك المجتمع في حالة من الفوضى حيث يعجز الأفراد عن إيجاد أرضية مشتركة لحل المشاكل المجتمعية.
على مر العصور، شهدت المجتمعات التي اهتمت بالثقافة المدنية تطورًا سريعًا في جميع المجالات، سواء كان ذلك في التعليم أو في النظام القضائي أو في السياسة. الشعوب التي تهتم بالقيم المدنية تشارك بنشاط في بناء مجتمعاتها، وتسعى إلى تعزيز الحوار، وتقوية أواصر التضامن بين الأفراد. ولكن المجتمعات التي تهمل هذه القيم تصبح عرضة للتفكك والضعف.
إن هدم شعب لنفسه من خلال إظهار أمراضه المجتمعية في تريندات التشيك توك أو البث المباشر في تطبيقات التواصل الاجتماعي هو مسار تدميري يمكن أن يؤدي إلى الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. ومع ذلك، فإن الاعتراف بهذه الأمراض مع السعي الجاد لعلاجها من خلال بناء ثقافة إصلاحية، ووعي جماعي، وحرص على تكامل المجتمع، يعد الطريق الأنسب لبناء مستقبل .
الإصلاح يبدأ من الفرد ، ولكن تأثيره يمتد ليشمل المجتمع ككل. إن بناء مجتمعات صحية يتطلب تضافر الجهود ورغبة قوية في إحداث تغيير حقيقي.